شوف تشوف

الرأي

فصل في إنكار تجميد التاريخ واستنساخه

ما حدث خلال يومين اثنين فقط من الأيام السابقة يلخص الأجواء في مصر قبل حلول الذكرى الخامسة لانطلاق ثورة 25 يناير 2011. وقد بدت حافلة بالاستنفار والقلق والترقب لما يمكن أن يحدث في المناسبة. عبرت عن ذلك أيضا التعليقات التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي خلال الآونة الأخيرة، وأغلبها دعا إلى التظاهر والنزول إلى الشوارع للميادين ورفع الرايات والشعارات التي ترددت آنذاك. وهو ما أسهم فيه بعض الشباب الثوريين الذين ينتمون إلى مختلف الاتجاهات بمن فيهم شباب 6 أبريل والإخوان والاشتراكيون الثوريون وآخرون من الغاضبين الذين ليس لهم انتماء سياسي محدد.
هذه النداءات أزعجت السلطات والأجهزة الأمنية التي توحي مختلف الشواهد بأنها تملك أسباب القوة، مع ذلك فقد تصرفت بعصبية وعشوائية دلت على شعور بالقلق وعدم الاطمئنان. وهو ما أشاع درجات مختلفة من التوجس والخوف. تجلى ذلك في الدعوات التي أطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي محذرة من الخروج ليلا إلى الميادين خشية التعرض للاعتقال. وتلك التي دعت النشطاء إلى عدم المبيت في بيوتهم، وإلى اتباع نصائح واحتياطات أخرى يتعلق بعضها بمحتوى الهواتف أو الحواسيب التي يحملونها، ويتعلق البعض الآخر بما يتعين اتباعه عند التعرض للتحقيق والاستنطاق.
إلى جانب الإجراءات الأمنية، يلاحظ الباحث أن ذكرى ثورة يناير والقلق إزاء ما يمكن أن يحدث في مصر مع حلول المناسبة بات محورا للخطاب السياسي وللتحركات التي شهدتها مصر منذ بداية الشهر الحالي. إذ لم يعد خافيا على أحد أن جذب الشباب وامتصاص غضبهم أصبح كامنا وراء مختلف الخطوات التي تمت، حيث ظل الهاجس الذي يحركها متمثلا في كيفية صرفهم عن التظاهر في 25 يناير.
آية ذلك مثلا أنه في حين كان متوقعا أن تستنفر مصر وتعبأ لمواجهة الآثار المترتبة على الانتهاء من بناء سد النهضة الإثيوبي العام المقبل (2017) بحيث يكون العام الحالي هو عام الماء، فإننا فوجئنا بأنه تحول إلى الخطاب الرسمي إلى «عام الشباب». وكانت الرسالة واضحة ومفهومة في ذلك الإعلان.
بل إنه صدر حكم محكمة النقض بإدانة الرئيس مبارك وابنيه بالفساد في قضية القصور الرئاسية، (كان ذلك مفاجئا لأنه لم تتم إدانته طوال السنوات الخمس الماضية عن الفساد السياسي الذي مارسه طوال ثلاثين عاما) عندما حدث ذلك كان التفسير الذي شاع في مختلف الأوساط أنها رسالة أريد بها إقناع ثوار يناير بأن القطيعة مع النظام السابق تمت وأن صفحته طويت تماما.
وفي حين مارست الأجهزة الأمنية دورها، ووجهت السياسة رسائلها، فإن بعض الأبواق الإعلامية دأبت على تجريح ثورة يناير، مرة باعتبارها مؤامرة، ومرة أخرى باعتبارها عملية شارك فيها الرعاع، وادعى ثالث بأنها سرقت، وهوَّن رابع من شأنها مشيرا إلى أنها ثورة خسائر وليس يناير، وتساءل خامس مستنكرا عما إذا كانت نعمة أم كارثة ونقمة. ولم يقصر الهجاؤون في ذم الربيع العربي الذي أتى بها والحط من شأنه حتى درج بعضهم على وصفه بالخراب العربي ضمن أوصاف سلبية أخرى تفاوتت في الإيلام والتجريح.
القاسم المشترك الأعظم بين كل هؤلاء، الداعين إلى التظاهر والرافضين له، أنهم هوَّنوا من شأن الثورة ووقفوا عند اللحظة التاريخية النادرة التي وقعت فيها ولم يغادروها. أعنى أنهم لجؤوا إلى تجميد الزمن وأوقفوا عجلة التاريخ رافضين متابعة مسيرته.
هؤلاء الذين ثبتوا أبصارهم على لحظة 25 يناير ولم يروا ما بعدها وقعوا في خطأ جسيم حين أغمضوا أعينهم عما تلاها من أحداث ومتغيرات جعلت تكرارها ضربا من التمني المستحيل. بكلام آخر فإن أجواء وحشود وأشواق تلك اللحظة يتعذر استنساخها بعد خمس سنوات، ببساطة لأن التاريخ لم يتوقف عند ذلك الموعد.
غابت عن بال هؤلاء أجواء الحدث الكبير، حين انفجر في ذلك التاريخ مخزون الغضب المتراكم في الأعماق المصرية، وعبر عن رفضه للاستبداد والفساد، الذى خيم على البلاد طوال العقود الثلاثة أو الأربعة السابقة.
والتقطت الحشود شرارات الأمل التي انطلقت من تونس مبشرة بالزلزال القادم في العالم العربي، إزاء ذلك توحدت الأمة المصرية والتقت على المطالبة بإسقاط نظام مبارك، وجلجلت هتافاتها في الفضاء داعية إلى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. الأمر الذي أنعش الأحلام وأيقظ الوعي وأشاع روحا جديدة في المجتمع. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن الشعب المصري ولد من جديد خلال الثمانية عشر يوما التي استغرقتها الثورة وانتهت بإسقاط نظام مبارك.
صحيح أن التطورات اللاحقة لم تحسن استثمار اللحظة التاريخية، الأمر الذي عرض المسيرة لانتكاسات وتشوهات مرت بها تجارب ثورية أخرى، لكن ذلك لا ينبغي أن يلغي الأهمية الكبرى للحدث أو ينال من عمق تأثيره في المجتمع، ولأن الأمر كذلك فإنه يصبح من التبسيط والتسطيح الشديدين أن يتصور أي طرف إمكانية استنساخ الحدث أو استحضاره بمظاهرات تخرج أو بيانات تصدر أو هتافات تطلق في الفضاء وترددها مواقع التواصل الاجتماعي. إذ أن مثل هذه الظنون لا تعبر فقط عن التهوين من شأن الحدث والفقر في إدراك طبائع الثورات وخبراتها، لكنها تعبر أيضا عن العجز عن رؤية حركة التاريخ.
ذلك العجز نلمسه بشدة في الأجواء الراهنة التي يخيم فيها قلق السلطة المفرط إزاء احتمال تجدد المظاهرات في ذكرى 25 يناير أو تطلع البعض لتكرار ما حدث عام 2011. حيث أتوقع أن يخيب ظن الطرفين حين تحل المناسبة، إلا أن أكثر ما يهمني أن تعطى المناسبة حقها وتأخذ مكانتها التي تليق بها في سجلات التاريخ، علما بأن اختزالها في الصراع مع الإخوان، أو في استهداف عناصر الجيش والشرطة، فضلا عن مظنة استحضارها في أي مناسبة، ذلك كله يهون من شأنها ويبخسها حقها.
لقد تغير المزاج العام في مصر خلال السنوات الخمس الماضية. لكن ذلك لا يعنى أن صفحة ثورة يناير طويت ومحي أثرها، وإن تصور كثيرون ذلك أو تمنوا. فالحدث الكبير كانت له تجلياته على أرض الواقع التي تعرضت للانتكاس والاندثار حقا، إلا أنه له صداه الذى يتعذر محوه من بنية المجتمع ووجدان الناس.
وهذا الصدى الذي يمثل الجزء الغاطس من تداعيات الثورة يطل علينا بين الحين والآخر في ومضات سريعة لا تلبث أن تختفي. مرة في انتخابات اتحاد الطلاب ومرة ثانية في مقاطعة التصويت في الانتخابات البرلمانية، وثالثة في الوقفة الاحتجاجية لأمناء الشرطة، وخامسة في اعتصام حملة الماجستير والدكتوراه.. وهكذا.
ولم يخل الأمر من ومضات مازالت تقاوم الاختفاء تمثلت في صمود بعض المنظمات الأهلية وشجاعة المنظمات الحقوقية التي تقود حملات الدعوة إلى وقف التعذيب وفضح الاختفاء القسري وتحدي القوانين الجائرة. وتلك كلها مواقف نبيلة لها تكلفتها الباهظة التي احتملها أولئك الرجال والنساء الوطنيون. ودفعوا ثمنها عن طيب خاطر. الأمر الذي يعني أن جذوة الأمل لم تنطفئ بعد وأن آفاق المستقبل الذي تتجمع فيه الغيوم لم تحكم إغلاق باب التفاؤل بغد يحل فيه الأمل حتى وإن طال انتظاره.
في غياب الشفافية وانسداد الأفق، فإن الصورة الحقيقية لتفاعلات المجتمع يتعذر إدراك معالمها، لذلك تظل الانطباعات محكومة بالصور المصنوعة التي يقدمها الإعلام والجهات المختلفة التي توجهه لتشكيل الرأي العام. ورغم أن ذلك وضع يحجب الرؤية الصادقة لحراك المجتمع وتفاعلاته، إلا أنه يؤجل الحلم ولا يجهضه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى