الرأي

فعلها بوستة والتقطها اليوسفي بلا حرج

بسبب هفوة كانت مطلوبة، أو انزلقت بغير حساب، غادر ما لا يقل عن تسعة وزراء ينتسبون إلى تجمع الأحرار، حكومة الوزير الأول المعطي بوعبيد. كان التجمع بالكاد أصبح حزبا، أسعفه الاستقلاليون، على عهد زعامة امحمد بوستة، بأوكسجين اصطناعي، عندما قبلوا المشاركة في حكومة يكون من بين مكوناتها، إلى جانب «الحركة الشعبية» التي كان يقودها المحجوبي أحرضان.
كانت الصورة تنحو في اتجاه أقرب إلى براغماتية المرحلة. وبين قائل بضرورة التمسك بحرفية مواقف المعارضة، إلى حين إنضاج ظروف مشاركة سياسية مغايرة، ودعاة استثمار الحاجة إلى دعم سياسي من طرف المعارضة، تباينت مواقف وتحليلات. وكما لم يعد الاستقلاليون يمانعون في الجلوس إلى مائدة حكومية واحدة تضمهم رفقة «الحركة الشعبية»، مارسوا سياسة إخفاء التناقضات بقدر من الانضباط للضرورات التي تبيح «المحظورات».
سيبرر بوستة ذلك الانعطاف الذي أحدث قطيعة مع «الاتحاد الاشتراكي» دامت بضع سنوات، بأن المرحلة، خصوصا ما يتعلق منها بتطورات قضية الصحراء، حتمت المشاركة في السلطة التنفيذية. ومما قيل وقتها إن الإدارة أصبح لها حزبها، بعد أن كانت تختفي وراء مسميات هلامية عديدة، من قبيل المترشحين المستقلين. وكتبت صحافة المعارضة في حينه، أن هؤلاء مستقلون فعلا، لكن عن العمل السياسي المستقل.
سيتسرب عن القيادي البارز في الاستقلال امحمد الدويري، عندما سئل كيف أن حزبه شارك في حكومة يقودها أحمد عصمان، بينما كانت أحزاب «الكتلة الوطنية» رفضت الانضمام إلى حكومة قاد الرجل نفسه مشاوراتها التي تعثرت، أنه قال إن الكتلة رفضت لأن أحمد عصمان كان يمثل نفسه، أما في الطبعة اللاحقة فقد صار له حزب، بصرف النظر عن ظروف النشأة.
استطاع زعيم تجمع الأحرار أحمد عصمان أن يبدد جوانب من الصورة التي علقت بحزبه، خصوصا وأنه لم يمكث على رأس الوزارة الأولى، بعد أن جمع المترشحين المستقلين في حزب سياسي، سوى فترة قصيرة، قدم بعدها استقالته كي يتفرغ لتنظيم وتفعيل أداء الحزب.
لن يكون الأول أو الأخير في هذا المنحى، فقد استقال أحمد رضا كديرة من وزارتي الداخلية والفلاحة، كي يتفرغ لجمع شتات أحزاب في «جبهته»، ثم استقال وزير الداخلية محمد حدو الشيكر، كي يترشح للبرلمان، وفعل المعطي بوعبيد الشيء نفسه من مكتبه في الوزارة الأولى بضعة شهور بعد تأسيس «الاتحاد الدستوري». غير أن الاستقالة من الحكومة بسبب الانتخابات أو الانشغال بالعمل الحزبي، ستتخذ بعدا آخر، يوم وجدت الزعامات الحزبية، باستثناء المعارض علي يعتة، نفسها في حكومة واحدة ذات مهمة تخص الإشراف على نزاهة الانتخابات. وكانت تلك المرة الأولى التي يشارك فيها زعيم الاتحاد الاشتراكي الراحل عبد الرحيم بوعبيد منذ تجربته في حكومة عبد الله إبراهيم.
إنه لأمر عصي على المستساغ سياسيا وحزبيا أن تأتي الرغبة في التفرغ للعمل الحزبي من طرف أحمد عصمان بعد حيازة صدارة المشهد السياسي بحوالي مائة وأربعين نائبا من أصل لا يزيد على المائتين وأقل من ثلاثين مقعدا. لكنها سريالية السياسة، كما في اختراعات محيرة، تمنح الواقع المفروض فرصة التعايش والتأقلم. ولو أدرك مهندسو الخرائط الحزبية حينئذ أن ما يفرقهم عن المعارضة ليس بحجم التناقضات الجوهرية التي أذيبت في كأس تعديلات دستورية، لما فكروا لحظة في ابتداع كل تلك الطبخات.
لندع المنشطات السياسية جانبا، فقد تصور قياديون ومنتسبون إلى تجمع الأحرار أن صوتهم يجب أن يكون مسموعا كقوة سياسية ناشئة حازت على صدارة المشهد الحزبي، قبل أن تصبح حزبا سياسيا له رئيسه ومكتبه التنفيذي وصحافته ونوابه في البرلمان. وعلى رغم أن أحمد عصمان يتوفر على تجربة سياسية مشهودة كرجل حوار وتعايش ذي مزاج واقعي ومنفتح، فقد أخفق في استشعار المطلوب منه هذه المرة، وذهب إلى مفاوضات تشكيل الحكومة بفكرة أنه يستطيع أن يفرض رأيه، أو يقلب الطاولة.
هل غابت عنه مؤشرات أضعفت من قدراته على الكلام بصوت مرتفع؟ أم أنه أدرك متأخرا أن المعطيات التي حملت حزبه إلى واجهة الصدارة لم تعد هي نفسها؟ في أي حال فإن مشاركة حزب الاستقلال في الحكومة قللت من فكرة الاعتماد على حزب ينعته خصومه بأنه خرج  من رحم الإدارة في انتخابات أشرف عليها الدكتور محمد بن هيمة، قبل أن يسلم مفاتيح عقله إلى خلفه إدريس البصري. وما زاد في تعقيد الموقف أن الانشقاق الذي عرفه تجمع الأحرار أضعف صفوف الحزب.
أغلبية وزراء الحزب كانوا أعضاء في حكومات سابقة عن تأسيسه، ومن بينهم عبد اللطيف الغيساسي وصالح المزيلي وعبد الكامل الرغاي ومحمد بوعمود والطيب بن الشيخ ومحمد جلال السعيد وعبد الرحمن الكوهن وأحمد العسكي والداي ولد سيدي بابا وعبد السلام زنيند وموسى السعدي وخلي هنا ولد الرشيد وآخرين. وكان عسيرا على الوزير الأول الأسبق أحمد عصمان أن يقنع رفاقه بأنهم يمكن أن يفقدوا مناصبهم، وقد أصبح الحزب يحتل صدارة المشهد السياسي في الانتخابات التي سارت بذكرها الركبان.
وبينما كان يفاوض من موقع اعتباري، تناسى أن المنشقين عن تياره الذين أسسوا «الحزب الوطني الديمقراطي» ينتظرون بالباب، وأن وزير الشغل محمد أرسلان الجديدي ينتظر الفرصة ليعود إلى الوزارة كزعيم حزبي. وسيروق لأهل قرار تجريب وصفة جديدة: لم لا ينزل تجمع الأحرار إلى الشارع ليلعب دور المعارضة؟ وطالما أن أحمد عصمان أصبح في وسعه أن يقول: لا، فما عليه سوى أن يجرب ذلك بالفم المليان.
كما التموقع داخل الحكومة ليس احتكارا، فليكن الخروج إلى المعارضة مشاعا بين الجميع. هكذا تبلورت فكرة إخراج تجمع الأحرار إلى دائرة ضوء آخر. ولن يجد الزعيم الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي أي حرج في إشراك الأحرار في خطوه إلى التناوب الوفاقي. ألم يفعل ذلك رفيقه محمد بوستة قبل حوالي عشرين سنة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى