سري للغاية

فقراء الزاوية في بيتنا

حدث بعد أن هاجرنا إلى «الكاريان» أن اكتشف بعض الأهالي أن «بوشتى» عشق بنت شيخ «صوفي»، فأصابها بسحره اللعين، واختارا أن يتبادلا الحب داخل «الزاوية».. نصب له «الأذكياء» كمينا ذات يوم، فانتشلوه من بين أحضان عشيقته عريانا، ولم يجد ما يواري به سوءته غير كتبه القديمة.. أرغمه الأهالي على الزواج ببنت «الصوفي».. كتب العدل عقد قرانهما بالمداد الذي طالما استعمله في كتابة السحر.. كان الفقيه أفطن من أهل الدوار كلهم، فقد انحنى للعاصفة حتى مرت بسلام، واستيقظ الناس ذات صباح، فلم يعثروا له على أثر، واكتشفوا أنه مكث فيهم سنوات عديدة دون أن يسألوه عن أصله أو حتى عن هويته.. فرَّ «بوشتى» وترك بنت «الصوفي» حاملا.. ذهب الفقيه وبقيت «ذريته» في القبيلة..
استفدت من هذه الفضيحة في ذلك الوقت، لأنها حطَّت من مكانة أخي، ونالت من مصداقيته، فانكسرت نفسيته زمنا طويلا، وبدا في وضعية حرجة.. كسبت نقطة إضافية لحسابي، في خضم معركة شرسة خضتها ضده وضد والدي لإثبات ذاتي وتميزي عنهما..
فتحت عيني على مظهر آخر من مظاهر التدين في باديتنا وهو «الحضرة الصوفية».. كان بعض كبرائنا ينتسبون إلى الطريقة «البوعزاوية» وبعضهم الآخر يسير على هدى «أحمد التيجاني»، شيخ الطائفة التيجانية.. يفتخر والدي كثيرا لكونه من أصحاب الشيخ «البوعزاوي».. لا يكِلُّ من ترديد عبارة «كن بوعزاوي ما تشوف طبيب ما ادّاوي».. وهو في ذلك يرد على أصحاب «التيجاني» الذين يقولون: «كن تيجاني ولا تبالي»..
قبيلتنا لا تختلف عن باقي قبائل المغرب، فلا تكاد تجد قفرا أو فلاة أو هضبة أو سهلا أو صحراء أو جبلا إلا وانتصب على ظهرها «ولي» من أولياء المكان.. ولا تكاد تجد بيتا أو «خيمة» من بيوت المغاربة إلا ودانت بإحدى الطرق الصوفية المعروفة..
تنافس كل من حزب «التيجاني» وحزب «البوعزاوي» على الزعامة «الدينية» في قبيلتنا..
يستضيف والدي أهل الطريقة كل عام، عند انتهائنا من الحصاد، وهي مناسبة نكون جمعنا فيها بعض المال من بيع القمح والشعير والذرة.. في هذا الموعد من كل عام تشتعل نار الخصام بينه وبين والدتي حول زيارة «البوعزاويين» لنا:
ـ سنبقى دائما فقراء.. نكد طول السنة من أجل جمع المال، فتصرفه أنت كله على أهل الطريقة، وتتركنا معدمين..
(تتوجه بالكلام إلى أبي وفي يدها كأس شاي)..
يرد عليها الوالد بلهجة فيها وعيد.. بعد أن انتهى من شرب الشاي، واتكأ على وسادة بالية، وقد غلب عليه النعاس:
ـ لا تنسي أننا نعيش ببركة سادتي الشرفاء.. فمن واجبات الدين أن نكرم ضيوفنا ونحسن وفادتهم.. احذري (يا امرأة) أن تسيئي إلى أولياء الله وأنت تجهلين..!
ـ أنا لا أريد أن أسيء إلى أحد.. ولا أعترض على مجيئهم أو أتبرم من الترحيب بهم.. لكن الله لا يقبل أن تنفق كل مالنا على «فقراء» الطريقة، وتتركنا عراة حفاة.. نحن أولى بالصدقة من هؤلاء.. (تجمع الزوجة المطيعة كؤوس الشاي وتضعها في صينية مصنوعة من النحاس استعدادا للنوم)..
ينهي الوالد الحديث دائما عندما يصل إلى هذا المستوى من النقاش (يتوجه إلى سرير خشبي ثم يستلقي عليه بقوة حتى سمعنا أطيطه..).. لا يمكن أن يتنازل عن رأيه أبدا مهما حصل وكيفما كانت العواقب.. فهو يستبد برأيه حينما لا يقوى على تفنيد حجج والدتي..
أليس ضربا من الجنون أننا نحرث الأرض ونزرعها ونتضرع إلى الله أن يسقيها من مائه، ونصبر على لسعات الشمس الحارقة لنحصد غلَّتها، ونبيعها بسعر تافه إلى المضاربين الحقراء، وفي النهاية يأتي أهل الطريقة إلى بيتنا ليأكلوا جُهْد الأسرة.. ويشربوا عرقها.. ويأتوا على كل العسل الحرّ الذي ندّخره لعامنا المقبل.. وأيضا على الزبدة «المُمَلَّحة» التي تكفينا لسنة بحالها..
يصبح أبي كريما فوق العادة عندما يزورنا «المشايخ» و«الفقراء».. يشوي الخراف.. ويشتري أحسن ما في السوق من الشاي الأخضر.. ويقتني كل ما تحتاجه المناسبة من الأواني ولوازم البيت الضرورية.. ثلاث ليال وأربعة أيام كلها أكل وشراب وذكر و«جذبة».. ينظم مهرجانا حقيقيا للتصوف.. يبني خيمة كبيرة بجانب الوادي.. يدعو كل «فقراء» الدوار، إضافة إلى «الشرفا» القادمين من مكان بعيد..
تنقسم الطريقة إلى صنفين من الأتباع، «الشرفاء» المنتسبون إلى الشيخ الكبير.. و«الفقراء» وهم عوام الطريقة.. فهناك العامة والخاصة.. وهؤلاء هم من يكرم الوالد وفادتهم وإقامتهم ويعطيهم المال في نهاية الحفل السنوي.. ففقراء الدوار يجمعون المال لشرفاء الطريقة.. يأكلون ما لذَّ في النهار و«الكسكس» في العشاء ويشربون «الحريرة» في الصباح.. أما الشاي فلا موعد لاحتسائه..
يجلس «محمد» مع أكابر أهل الطريقة، فهو من حفظة القرآن، أما أنا فلا مرحبا بي وسط هؤلاء الذاكرين.. لكني كنت أجلس بجانب الخيمة أرقب حركات الضيوف.. أرصد سكناتهم.. أحسب كؤوس الشاي التي يشربونها وعدد الوجبات التي يأكلونها.. أعدُّ أنفاسهم عدّاً.. إلى درجة أني أستطيع أن أروي كل ما سمعته يومئذ من حكايات ومسامرات ونكت أهل الطريقة.. أذكر جيدا جذبتهم وحضرتهم وحشرجتهم وهم يرددون: «الله حي.. الله حي..»
كان لشرب الشاي مديح خاص.. بعد تناول الطعام ذكر معلوم.. وفي نهاية الجلسة حضرة مميزة.. وبين هذا وذاك هناك حديث مستفيض عن كرامات أهل الطريقة ومعجزات شيخهم الكبير.. أذكر بين هؤلاء رجلا ضخما ذا قامة طويلة وصوت حاد ولحية بيضاء غطت قفصه الصدري وجانبا من بطنه.. يكاد النور يسطع من هامته العريضة.. يحتكر الحديث، ويوزع المواعظ يمينا وشمالا.. عند الانتهاء من أكل «الرغيف» (تصنعه أمي بالزبدة البلدية وتضع فوقه العسل الحر) يمسح بيديه دون غسلهما على لحيته، فيزداد وجهه بياضا وتألقا من جرّاء الدهون.. كان أغلب كلامه عن كرامات وصولات وجولات شيخه في عالم الباطن والظاهر..
يحكي عن شيخه الكبير أنه يعلم المغيبات ويلج أسرار النفوس.. روى الرجل الضخم أن «الولي» يكون جالسا مع ندمائه في المغرب، فيخبرهم بطوافه في البيت الحرام.. ويصف لهم أجواء الطواف ولباس الكعبة والحر الشديد في الجزيرة العربية.. يسافر «الولي» في لمح البصر أو أقل من ذلك إلى أقصى المشرق، وفي الوقت نفسه يشرب مع أتباعه الشاي في أقصى المغرب.. يحكي ذو اللحية الطويلة أن «الولي» يستطيع أن يتوارى عن الناس ويمشي في الأسواق دون أن تلمحه أبصارهم..
ذو اللحية البيضاء له أيضا كرامات مثل شيخه.. يحكي للحاضرين (أبي ينصت إليه بكل انتباه مثلما حدث مع الدركي الذي اعتقله) أنه مرة كان يركب سيارة مع خلصائه من أهل الطريقة، ولم تكن مع السائق الأوراق القانونية، فيمرون من أمام رجال الدرك دون أن يشعر بهم أحد.. كان يقول للسائق: «سر ولا تخف.. فلن يوقفك دركي بعد اليوم».. يؤكد الراوي أن صاحب السيارة بقي يقودها إلى اليوم دون أوراق ودون أن تحرر ضده أية مخالفة.. كنت لا أملّ من الاستماع إلى هذه الحكايات.. أجد فيها متعة لا تقاوم، فلم يكن يومها لدينا تلفاز ولا هاتف نقال ولا أنترنيت، لذلك كان اجتماع أتباع الطريقة في دارنا حدثا مشهودا ربما لم تُتَح لغيري فرصة حضوره أو الاستفادة منه..
بعد نهاية كل موعظة، يصيح الرجل الضخم بصوت عال: «الغوث.. الغوث».. لم أستطع فهم هذه العبارة الصوفية في ذلك الزمن، فكنت أذهب مسرعا إلى أمي أسألها عن معنى «الغوث.. الغوث».. كانت المسكينة لا تتحمل أسئلتي، فانهماكها في إعداد الطعام لفقراء الطريقة لا يترك لها مجالا لتستنشق فيه بعض الهواء خارج أجواء «الكشينة».. فهي لا تنام مدة المهرجان الصوفي إلا قليلا، وكم من مرة استسلمت للنعاس قرب «الكانون»، وكم من ليلة غفت وهي جالسة.. ولولا أن بعض الزائرات يقدمن لها يد المساعدة لقضت نحبها وهي تعدُّ الأكل للضيوف..
كان الوالد يواسيها دائما بأنها مأجورة وأنها ستدخل الجنة مع الداخلين.. وأن بركة أهل التصوف ستصيبها لا محالة.. وقد أصابتنا بالفعل بركتهم، فقد عشنا في ما بعد ظروفا صعبة لم تنفعنا معها تعويذات «بوشتى» ولا بركة «الصوفية» ولا «النخلة» التي كانت تضع أمي الشموع عند أقدامها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى