شوف تشوف

فين كنّا وفين ولينا

إنها لمصيبة وطامة كبرى أن يصبح دخول الطوبيس إلى الرباط حدثا وطنيا تتسابق القنوات من أجل أخذ انطباعات المواطنين حوله، والحال أن وجود الطوبيس في عاصمة مثل الرباط يجب أن يكون شيئا أكثر من عادي، لكن وبما أنهم يحرمون المواطن من أبسط حقوقه فإن إعادة منحه خدمة الطوبيس تصبح فتحا مبينا وحدثا عظيما، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الرباطيون القدماء يتذكرون الطوبيس الأخضر سنوات الخمسينات، والطوبيس الأصفر الملقب ببوخرصة سنوات الستينات والسبعينات والذي كان ثمنه جوج دريال قبل السابعة صباحا وست دريال بعدها، لحث الناس على الاستيقاظ باكرا للذهاب للعمل وللاستفادة من التخفيض. فأحياهم الله حتى عاشوا في ظل مجلس بلدي ومديرية للنقل الحضري بوزارة الداخلية أعاداهم إلى عصر ما قبل اكتشاف العجلة وصاروا يركبون طوبيسات تشبه العلب القصديرية والتريبورتورات والخطافة من كل نوع.
وإذا كان الرباطيون قد ركبوا التريبورتور في زمن الطرام فإن المراكشيين عاشوا حتى شاهدوا من يحدث ثقبا في السور العظيم لمراكش والذي يخترق المدينة العتيقة على طول يزيد عن تسعة كيلومترات كانت كلها مبنية بالتراب المدكوك أو ما يصطلح عليه محليا باسم “اللوح” من أجل أن يبني منزلا.
فأين كان المقدم والقائد والخليفة والباشا والعامل ومندوب وزارة الثقافة حتى تَرَكُوا هذا الجاهل يشوه سورا تاريخيا عمره مئات السنين؟
الناس يشيدون المراكز الثقافية في الخارج لتصدير ثقافتهم وتاريخهم لجلب السياح ويحرصون أشد ما يكون الحرص على حماية المآثر التاريخية ومعاقبة كل من يمسها بسوء، ونحن لم يعودوا فقط يتبولون على الأسوار التاريخية ويرمون أزبالهم داخل المآثر التاريخية بل ها هم صاروا يدمرون الأسوار التاريخية من أجل تشييد بيوتهم البشعة.
إن واحدا من أخطر أنواع الجهل وأكثرها كلفة لاقتصاد المغرب هو جهل حكامه بأهمية الثقافة وقدرتها على تغيير مستقبل البلاد نحو الأفضل. وعندما نراجع قائمة أسماء وزراء الثقافة الذين تعاقبوا على الحكومات المغربية منذ 1955، سنلاحظ أن أغلبهم لا تتوفر فيه شروط وزير الثقافة كما هي متعارف عليها في الدول ذات الحضارات العريقة مثل المغرب. ووزارة الثقافة هي الوزارة الوحيدة في المغرب التي يمكن أن تسند حقيبتها إلى وزير غير حاصل على الإجازة، أو إلى وزيرة غير حاصلة حتى على شهادة الباكالوريا.
وقد ظلت وزارة الثقافة منذ حكومة البكاي تابعة لوزارة الصناعة التقليدية والسياحة والفنون الجميلة، حيث تختلط الثقافة بصناعة الشرابيل والطواجين. ثم انتقلت إلى مجرد مديرية في وزارة التعليم، إلى أن حصلت مع محمد الفاسي على استقلالها الذاتي وأصبحت وزارة قائمة بذاتها اسمها وزارة الشؤون الثقافية.
ولعل ما يكشف عن احتقار الدولة للثقافة في المغرب هو تخصيص صفر فاصلة خمسة من ميزانية الدولة لوزارة الثقافة. وهي ميزانية لا تصل حتى إلى مستوى الميزانية التي ترصدها إسبانيا أو فرنسا مثلا لمركز واحد من مراكزها الثقافية المنتشرة في المغرب.
والواقع أن أهم قطاع وزاري اليوم في المغرب يجب أن يحظى بأكبر اهتمام هو قطاع الثقافة. فالمغرب اليوم بلد لا ينتج شيئا مهما يستطيع أن ينافس به الأسواق العالمية. ليست لدينا ثروات طبيعية مهمة نستطيع أن نغزو بها العالم مثلما هو الأمر بالنسبة لبلدان أخرى. كل ما لدينا هو حضارتنا وثقافتنا المغربية التي تضرب في أعماق التاريخ. والحضارة والثقافة اليوم ليست فقط دروسا سخيفة في كتب التاريخ الذي يتم تعليمه للتلاميذ في المدارس والطلبة في الجامعات، من قبيل «وبنى مدرسة ومارستانا وسك النقود باسمه»، وإنما مشروع استثماري ضخم ترصد له ملايير الدراهم في الداخل والخارج.
إن جزءا كبيرا من السياح الإسبان الذين يختارون قضاء عطلتهم في مصر يصنعون ذلك بفضل ما يقوم به المركز الثقافي المصري في مدريد من أجل التعريف بالثقافة والحضارة المصرية، والذي افتتحه طه حسين في الخمسينات.
وقد قامت ضجة كبيرة في وجه طه حسين عندما كان وزيرا للمعارف في الخمسينات وقرر فتح مراكز ثقافية مصرية في بعض العواصم الأوربية، وكان هناك بعض الجهلة من الذين اتهموه بتبذير أموال الدولة، فكتب رسالة يشرح فيها موقفه ويدافع فيها عن مشروعه، الذي ظهر اليوم كم كان رائدا وسابقا لزمنه.
والدولة المغربية عندما تتجاهل فتح مراكز ثقافية في الدول التي لديها مراكز ثقافية أجنبية عندنا، إنما تحرم خزينة المملكة من عائدات ملايين السياح الذين كانوا سيكتشفون المغرب وثقافته وحضارته من خلال أنشطة هذه المراكز الثقافية التي ستصدر صورة المغرب وتبيعها للآخر.
المصيبة في المغرب أن من يسيرون شؤونه ينظرون إلى قطاع الثقافة كقطاع معاق يستحق الصدقة، والواقع أنه القطاع الوحيد الذي يمكنه أن ينقذ المغرب ويضمن له مكانة في المستقبل. فالحروب التي يعرفها العالم اليوم ليست سوى حروب ثقافية وفكرية، وكل دولة قوية تسعى إلى فرض هيمنتها على الدول الضعيفة بواسطة لغتها وثقافتها، وبعد ذلك يأتي الاقتصاد والتجارة بسهولة أكبر.
يجب أن نفهم أن فرنسا وإسبانيا لا تتنازعان اليوم حول اقتسام المغرب لغويا وثقافيا عبر مراكزهما التي تتكاثر كل سنة، فقط من أجل سواد عيون المغاربة. وإنما هناك مصالح اقتصادية كبيرة جدا وراء هذا الاهتمام اللغوي والثقافي. فوراء فيكتور هيغو وألبير كامي هناك اتحاد المقاولات الفرنسية، ووراء سيربانتيس هناك ألزا وريبسول وشركات التدبير المفوض. والذي يعتقد أن الإسبان والفرنسيين والإيطاليين والإنجليز والألمان يصرفون ملايير الأورو لترويج لغتهم وثقافتهم في المغرب، إنما يصنعون ذلك لأننا «بقينا فيهم» فهو واهم.
الثقافة ليست هي التسول والصدقة، وعندما نقرأ ونرى القائمين على الشأن الثقافي يتحدثون عن الاجتماعات المتكررة مع الفنانين والممثلين والمغنين لتدارس الوضع الثقافي والبحث معهم عن حلول لمشاكلهم، نقتنع بأن الناس لم يفهموا بعد ما معنى أن تكون مكلفا بقطاع الثقافة. فهم يحصرون الثقافة فقط في الفنانين والممثلين، ويعتقدون أن مهمة وزير الثقافة هي عيادة الفنانين الذين يجرون عمليات جراحية في بيوتهم، أو السعي لطلب الرعاية الملكية لفنانين يشهرون شهادات الضعف في صفحات الجرائد في ما يشبه التسول.
في الدول الديمقراطية هذه الأشياء تتكفل بها النقابات وشركات التأمين، وليس هناك فنان في فرنسا أو أمريكا يبعث رسالة إلى رئيس الدولة يطلب فيها منه التكفل بصحته. لأن الصحة حق من حقوق الإنسان وكل المواطنين سواسية أمام هذا الحق، وليس لأنك فنان أو كاتب يجب أن تتكفل بك الدولة من دون عباد الله الآخرين.
إن مهمة وزارة الثقافة اليوم، ومعها وزارة السياحة، هي أن تعيدا الاعتبار لهذا الإرث الحضاري والإنساني الذي يندثر أمام أعيننا يوميا في مدن عتيقة وتاريخية يستحيل أن تجد لها نظيرا في أي مكان من العالم.
مدن عاش وعبر منها كتاب عالميون وعباقرة موسيقيون وثوار ما زال مجرد ذكر اسمهم يثير الإعجاب. هل يعرف وزير السياحة مثلا أن الثائر تشي غيفارا نزل ذات يوم ضيفا على فندق باليما الذي يقابل البرلمان. ماذا كانت ستخسر وزارة السياحة لو أنها أعادت تأثيث الغرفة التي نام فيها غيفارا ووضعت صوره على جدرانها وروجت لها في كتب السياحة العالمية. إن خصلة واحدة من شعر تشي غيفارا بيعت في مزاد علني بمبلغ 119 ألف دولار، وأكيد أن عشرات الآلاف من السياح سيتدافعون لقضاء ليلة واحدة في غرفة نام فيها تشي غيفارا ذات يوم في باليما.
وفي مقبرة منسية بالعرائش هناك قبر أعزل ومجهول لواحد من كبار الكتاب العالميين وأحد أكبر المدافعين عن القضية الفلسطينية، إنه جون جوني، ولو عرف عشاق أدبه أنه مدفون في العرائش لزاروه بالمئات ولكانوا اكتشفوا بالمناسبة مدينة ساحرة اسمها العرائش لديها أشهى سردين في العالم.
وفي طنجة عشرات البيوت التي استوطنها كتاب عالميون من الأمريكي تينيسي ويليامس وبول بولز، إلى محمد شكري الذي ترجم إلى ما يفوق عشرين لغة، والذي ظلت شقته مقفلة إلى أن وزع ورثته ممتلكاته وباعوها في الخردة.
وفي منطقة الديابات بالصويرة سكن جيمي هندريكس حوالي ثلاثة أشهر، وفي طنجة مر الرولينستونغ، وفي بجعد عاش الكاتب الفرنسي شارل دو فوكو، الذي لم يعر الحبيب المالكي ابن بجعد ذكرى هذا الكاتب أي اهتمام طيلة وجوده على رأس وزارة التعليم.
ومن المؤسف حقا أن لا نعثر في أي دليل سياحي على عناوين بيوت هؤلاء الفنانين والكتاب العالميين والأماكن التي مروا منها، ولو بلوحة رخامية بسيطة تدل على أثرهم. وكيف سنعثر على أثر لهؤلاء والمجالس البلدية يرأسها الأميون وأشباه الأميين الذين يزيلون أسماء العظماء من لوائح الشوارع ويعوضونها بأسماء النكرات الذين لا يعرف لهم أثر أو إنجاز.
وكيف ستهتم وزارة الثقافة بأسماء هؤلاء الكتاب والفنانين الأجانب الذين مروا بالمغرب، في الوقت الذي نرى فيه كيف تتجاهل الوزارة حتى بيوت ومقابر مؤسسي مدن المغرب. من يعرف مثلا أن بيت لسان الدين الخطيب يوجد في حي الطالعة بفاس، وبيت ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع في فاس أيضا، وبيت الفيلسوف ابن رشد في مراكش. مراكش التي يتبول السكارى والمشردون بالقرب من الضريح المهمل لمؤسسها العظيم يوسف بن تاشفين.
وبعد ذلك يستغربون أن يأتي جاهل ويشق سورا تاريخيا أمام أنظار الجميع لكي يبني فيه بيته ويندهشون كيف أن لا أحد حرك ساكنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى