الرأي

في ذكرى ليلى سعيد (2/2)

لماذا يا أبت؟؟ لماذا كل هذا التعب في الحفظ؟؟ فيجيب الأمام: حتى تعرف فور مطالعة الحديث أنه من مستودع الشيطان.
إنها محنة ثقافة مزورة كما يقول النيهوم، في صلوات جمعة مصادرة بيدي وعاظ السلاطين والمتشددين الذين يدعون بالهلاك والثبور على تسعة أعشار الجنس البشري أو جماعة النائمين في استراحة فقهاء المماليك أيام سعيد جقمق من المماليك البرجية.
لقد سحقت قلوبنا سحقا، واعتصرت في صدورنا عصرا، وانكوت كيا بنار الحب والفقدان. وهذا ما ذكرني بصدمة سابقة ليست في شدة الحالية، حينما مات صديقي أبو طه الذي مات أمام عيني قرب فيلا الجولان التي بنيتها وطلبت استشارته مع قوم متخلفين في البناء والأداء وكثرة الطلب، مما حرك عندي القلم فكانت دموعي مدادا أسود، وأفكارها ممزوجة بزفرات الحزن وآهات التوجع، وأقلامها شظايا من الذكريات. فالموت هي تلك الظاهرة التي تسبح بين اليقين واللايقين، ففيها اليقين من النهاية الحدية، التي تسلم الإنسان إلى عالم اللانهاية والأبدية واللاعودة، وفيها اللايقين من عدم إمكانية تصديق انهيار عالم بالكامل، بشكل مطلق ونهائي وفجائي إلى الصفر.
يا إلهي ما هذا الموت الذي كتبته علينا، أي جبروت فيه وقهر. وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون.
عندما انتابني هذا الشعور لا أدري ما الذي حرك في ذهني فكرة بعث الموتى على يد المسيح عليه السلام، وعندها بكيت وأدركت أن ليلى قد شبعت موتاً، وجثتها تمشي في طريق التعفن والتحلل والتفسخ، وسوف يهرب منها أقرب الناس إليها، ويبقى التراب أفضل ستر، وسالت دموعي مجدداً ، فموعدي معها هو في الآخرة فقط .
بكيت في الواقع على نفسي، فعمرها من عمري. هي من جيلي وعاصرت نفس الأحداث التي عشتها، أما هي فقد انتهى حظها منها، وطُوي ملفها من سجل الأحياء، وأما أنا فسألحقها ولو بعد حين .
إن فلسفة إدراك الموت ووعيه الحاد تولدت في الشعور الإنساني من معاصرة ومعاينة فقد الصديق والحبيب. بدأت أنظر إلى المارة والناس بغير العين السابقة وأخاطب نفسي: كلكم أشباح تنتظرون الموت.
اسعوا ما تسعون وافرحوا ما شئتم ففي النهاية سيكون ظل الموت الباكي هو الذي سيغلفكم ولو بعد حين.
إن كل لحظة لنا هي توديع للحياة باتجاه نقطة الموت التي نقترب منها. إننا نكبر مع كل لحظة ونقترب من الموت لحظة مقابلة فنصغر بنسبتها .
قانون التغير يمثل الحقيقة الأولى في الوجود: إن الحقيقة الأولى في الوجود كما قال حكيم من الشرق، هي قانون التغير وعدم الدوام والزوال.
إن كل شيء في الوجود من حيوان الخلد إلى الجبل، ومن الفكرة إلى الإمبراطورية، يمر خلال دورة الوجود ذاتها، أعني النمو والانحلال ثم الموت. والحياة وحدها هي الشيء المستمر، وهي دائماً تسعى إلى الإفصاح عن نفسها في صور جديدة.
والحياة جسر. ومن ثم فلا تبنى البيوت فوق الجسور، والحياة عملية من عمليات التدفق والجريان، فمن يتعلق بأية صورة من الصور مهما يكن جمال هذه الصورة فسوف يقاسي، نتيجةً لمقاومته لهذا التدفق والجريان، والحياة واحدة غير منقسمة وإن كانت أشكالها المتغيرة على الدوام لا حصر لها وهي قابلة للفناء.
وليس هناك في الحقيقة موت وإن كان الموت مصير كل صورة من صور الحياة.
إن الرحمة وليدة إدراك وحدة الحياة وفهمها، وقد وصفت الرحمة بأنها قانون القوانين، وأنها التناسق الأبدي، وأن الذي يشذ عن هذا التناسق سوف يصيبه الألم والمكابدة، كما أنه يؤخر من تنويره وتثقيفه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى