الرأي

قصة العشرين في المائة التي تزيد وتنقص

اشتكى وزير الصناعة التقليدية عبد الله غرنيط من أن الإدارة لا تفعل ما يكفي للنهوض بالقطاع. كانت المناسبة تقديم تقرير عن موارد القطاع وأوضاع العاملين فيه، تضمن أرقاما اتسمت بالمبالغة. وعندما سئل لماذا لم يستفد العاملون من الطفرة التي حفل بها التقرير، رد بأن الكلام موجه لوزارة المالية لا للعموم.. عساها تفطن لحيلة الأرقام الخيالية وتجود بما يعادلها وزيادة من موارد حقيقية.
كل المعارك كانت تدور بين الوزراء والآمر بصرف وإعداد الموازنات في نسختها الأخيرة. وتنبه أحد وزراء السياحة يوما إلى مقتضيات هذه العملية، فجذب وزير المالية أثناء اجتماع رسمي إلى جانبه، ثم أخبر الملك الراحل الحسن الثاني بأن كل شيء جاهز لإنجاز مركب سياحي في مستوى التطلعات، وما بقي إلا أن يأذن لوزيره في المالية بصرف متطلبات الإنجاز.
لم يتمكن وزير المالية في غفلته من أن يجمع شتات أفكاره، ووجد نفسه في ورطة، فاضطر إلى فعل المستحيل من أجل إرضاء وزير السياحة الذي كان يتحدث عن المشاريع من دون احتساب كلفتها، وفي ذهنه أن وزارة المالية لا تصلح لغير تسديد النفقات.
حدثني مدير ديوان عبد الله غرنيط أن الوزير الذي كان صديق فصول الدراسة للملك الراحل الحسن الثاني في المدرسة المولوية، مثل عبد الرحمن الكوهن وعبد الحفيظ القادري والجنرال المتقاعد عبد الحق القادري وغيرهم، لم يكن يعير اهتماما للأرقام، وكان يحض معدي التقارير على النفخ فيها، شريطة ألا تنفجر جراء التضخم.. فقد كان يعتبر ترفيع كميات المنتوجات المصدرة إلى الخارج دليلا على نجاحه.
وحين واجهه مدير ديوانه بأن أرقام مداخيل العملة الصعبة يجب أن توازي ما تتضمنه التقارير، أجابه غرنيط بأنه ليس تاجر بازارات، ومن أراد أن يحسب المداخيل عليه أن يضع محتسبا أمام كل بازار. أما هو فقد عينه الملك الراحل ليفكر لا ليقوم بعمليات حسابية، كان ضعيفا في معادلاتها إبان الدراسة، ولن يصبح عبقري حسابات بعد أن اقتعد كرسي الوزارة.
أضاف مدير الديوان في لحظة انشراح، كنا نتجاذب فيها الحديث داخل مبنى الوزارة الذي تحول إلى وزارة مكلفة بالعلاقة مع البرلمان، أن غرنيط صارحه بأنه يستطيع أن يقوم بعملية حسابية وحيدة، تخص أعداد جلاليبه، في إشارة إلى أنه كان يشجع الصناعة التقليدية عبر اللباس. ونادرا ما كان يظهر في مجالس الحكومة والتدشينات بغير الجلباب.
في غضون استمرار الجدل حول السبل الكفيلة بالنهوض بالصناعة التقليدية وحفظ منتوجاتها من الانقراض، وإيلاء الاهتمام إلى الحرفيين، تقدم مهندس فرنسي يدعى أندريه باكار بمشروع يهم إصدار مجلدات عن فنون الصناعة التقليدية وروادها، اشتغل عليه مصورون بارعون التقطوا مشاهد زاخرة بالإبداع في مختلف المجالات. ومثل العديد من المبادرات التي يكون لها الوقع المؤثر حين تصدر عن أجانب، كما في تظاهرات فنية وفولكلورية وسياحية.. فُتح كتاب الصناعة التقليدية.
قلائل هم الحرفيون الذين كانوا يزينون محلات عملهم بشهادات تقديرية، صيغت في شكل «جائزة أحسن صانع تقليدي». ومع ذلك اعتبرت تلك الالتفاتة اعترافا بجهودهم في صون هذا الموروث الحضاري. وكان أحد وزراء الأنباء في ستينيات القرن الماضي لا يوقع على تصوير أي شريط سينمائي أجنبي في المغرب، إلا إذا اعتمد لقطة أو أكثر تشير إلى ثراء الصناعة التقليدية.
من بين الحكايات في هذا المجال أن سيناريو فيلم حمل عنوان «الرجل الذي يساوي الملايين» كان يتحدث عن عصابة يوجد مقرها في درب مظلم. واقترح وزير الأنباء استبدال الظلمة بدهاليز في «دار الدبغ» في المدينة العتيقة بفاس، وشاهد الجمهور العميل الذي لا يشق له غبار يطارد أفراد العصابة بين حفر الصباغة في «دار الدبغ».
اقتنع الحسن الثاني، بعد أحداث القلاقل التي هزت الدار البيضاء في صيف العام 1981، بضرورة تقسيم الدار البيضاء الكبرى إلى أربع أو خمس عمالات. وزاد إعجابه أكثر بتصاميم مقراتها الفسيحة ذات الأبواب العالية. فقد استغرقته فكرة العمران الذي يستوحي معالمه من الطراز التقليدي، وكان يعتبر ذلك عنصرا مشجعا، لأن المواطن الذي يخشى الاقتراب إلى الإدارة من أجل قضاء أغراضه المستحقة، لن يجد نفسه غريبا، وهو يدلف عبر بوابات شيدت على الطريقة الأصيلة في الزخرفة والنقش وفسيفساء التشكيل.
نظريا على الأقل تبدو الفكرة أقرب للتقبل، وإن كانت مسألة القرب أو الابتعاد عن رموز الإدارة في المعمار والتأثيث لها خلفيات متعددة. ومن بين ثنايا هذه المجادلات انبثقت فكرة براقة، كانت تقضي بفرض نسبة لا تقل عن العشرين في المائة، من الطراز المعماري التقليدي، على كل مشروع عمومي في البناء، خصوصا المنشآت الإدارية الرسمية، مثل المطارات والمستشفيات، وكذلك الفنادق والمركبات السياحية. بل إن الفكرة كان يراد لها أن تشمل البناء السكني للحفاظ على الموروث الأصيل لفن العمارة المغربية.
هل نفذت الفكرة بحذافيرها، أم جرى الانتقاص منها؟ اسألوا عمال البناء وخصوصا حرفيي النقش على الجبس وزخرفة السقوف والخشب، من دون إغفال المهندسين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى