الرأي

كرة المضرب بين القاهرة وبغداد ثم دمشق

أمام البرلمان، وقف المستشار أحمد رضا كديرة يشرح دوافع انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية، احتجاجا على ضمها التعسفي لكيان وهمي، تنتفي عنه شروط السيادة. قال ضمن مرافعته، وهو المحامي القدير الذي كان يدير الملفات السياسية، كما لو أنه يرافع أمام محكمة، إن موقف مصر لم يكن سلبيا، إلا لكونها أضحت تفكر خارج الانتساب إلى جامعة الدول العربية.
في اليوم الموالي، كان الصحفي سمير شحاتة، من وكالة أنباء الشرق الأوسط، يجول على مكاتب تحرير الصحف ومقرات الأحزاب السياسية، مستفسرا عما يمكن أن يترتب عن كلام المستشار الذي ترك الباب نصف مفتوح ونصف مغلق. فقد كان هاجس الدبلوماسية المصرية منصبا على التقاط أي إشارة أو فلتة لسان. فقد وضعت كافة السيناريوهات الممكنة بعلاقاتها مع الدول العربية، إلا أن تكون خارج الدائرة. وصعب عليها حقا أن تقتنع بأن زعيمة العالم العربي و«أم الدنيا» ستواجه حصارا عربيا سياسيا واقتصاديا، جراء تداعيات إبرام اتفاق «كامب ديفيد» المشؤوم.
تأثر التنسيق بين الرباط والقاهرة على المستويين الإفريقي والعربي كثيرا. وفي مقابل ذلك لم تنقطع قنوات الاتصال بين مصر والجزائر، وقال المستشار كديرة بهذا المعنى إن ما افتقدته القاهرة في الجانب العربي سعت إلى تعويضه إفريقيا، وبذلك كانت الفرصة سانحة أمام الدبلوماسية الجزائرية للإفادة من هذا الوضع. براغماتية غريبة، لكنها تسللت بأهداف محددة إلى الساحة الإفريقية.
آنذاك احتمت تونس بالتزام نوع من الحياد السلبي، لأنها كانت أبرمت معاهدة أخوة وتعاون مع كل من الجزائر وموريتانيا، بينما كان النظام الليبي بصدد استيعاب اتفاق وجدة الذي أطلق عليه معاهدة الاتحاد العربي – الإفريقي، وكانت العلاقة بين المغرب وموريتانيا أقل من عادية. ما جعل الربط بين موقف القاهرة والأوضاع التي كانت تجتازها منطقة الشمال الإفريقي، أقرب إلى الفهم والتأمل، وليس الهضم. وليس كل ما يبلع المرء يسير على الهضم، فبالأحرى ماكينة الدول التي تحصد الصالح والطالح.
استأثرت قضية مصر بانشغالات أكبر من طرف العقل السياسي المغربي، الذي لم يستسلم لفكرة عزل مصر عن محيطها التاريخي والجغرافي الطبيعي. فهو، بحكم التزامه بقرارات قمة بغداد، لم يكن واردا الخروج عن ذلك الإجماع، وإن كان اعتبره انفعاليا كان بالإمكان تفاديه عبر محاورة القاهرة، منذ إعلان الرئيس محمد أنور السادات عزمه الذهاب إلى القدس وتوجيه خطاب من داخل الكنيست الإسرائيلي. فالشكل قد يعتريه الخلل، لكن المضمون يمكن دائما تنقيحه من خلال دعم فكرة ربط خيار السلام بالعدل والإنصاف واسترداد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتحقيق جلاء عن جميع الأراضي العربية المحتلة.
بارقة أمل ستخطف الأنظار أثناء التئام القمة الإسلامية في الدار البيضاء، وسط الجلسة المغلقة لقادة ورؤساء الوفود، نهض الرئيس الغيني أحمد سيكوتوري من مقعده، وقال موجها كلامه للحاضرين: «آتوني بقرار أو مرجعية قانونية صدرت عن منظمة المؤتمر الإسلامي تفيد بتعليق عضوية مصر؟». ذهل الحاضرون، فقد استند قرار التعليق إلى موقف سياسي. عارضه العراقيون والسوريون واليمن الجنوبي وليبيا بشدة، فيما ساندته دول إفريقية وآسيوية مؤثرة، من بينها تركيا والسنغال وماليزيا.
بين روح القانون وحرفيته وجوهر السياسة وثناياها، تعاظم الجدل. والظاهر أن المغرب الذي كان يرأس الدورة، تعمد أن يعتلي صوت النقاش القانوني عاليا. أقربه أن الالتزام بمفاهيم الشرعية الدولية يفرض أن تسود على غيرها من الحساسيات، بخاصة وأن معطيات إبرام اتفاق «كامب ديفيد» تغيرت إلى حد ما، وأن الرئيس المصري آنذاك محمد حسني مبارك لم يتبع خطوات سلفه السادات في زيارة إسرائيل.
لن تمضي فترة أطول، ويلتقي قادة وزعماء الدول العربية في قمة طارئة في الدار البيضاء، كان من أبرز نتائجها عودة مصر إلى جامعة الدول العربية، لم تعترض أي عاصمة وبدا أن الفراغ الذي أحدثته عزلة مصر لنفسها انسحب على الواقع العربي برمته. غير أنه، كما أبعدت بغداد النظام المصري من الساحة العربية، استنادا إلى انتهاكه ميثاق الجامعة وإبرام صلح انفرادي مع الكيان الإسرائيلي، ستقوم القاهرة برد الصاع صاعين.
أخطأت تقديرات وحسابات الرئيس العراقي صدام حسين في غزوه للكويت ومحاولة شطبها من الخريطة، واستغلت القاهرة تلك المغامرة المرفوضة قانونيا وسياسيا وأخلاقيا، وخلصت إلى تعليق عضوية العراق بعد مرور أكثر من عشر سنوات على رسو كرة المضرب في ملعبها، وبقيت سياسة الثأر، على غرار نزعات قبلية متعصبة تهيمن على الأفعال وردودها في المنطق السياسي العربي. إلا أن القاهرة سترد التحية إلى الرباط، وتبدي رغبتها في الانضمام إلى الاتحاد المغاربي، مباشرة بعد العام الأول لاستحداثه. كان المشروع كبيرا في سعة حلم إقليمي توقع كثيرون أن يكون له امتداد إفريقي وعربي، غير أن الاتحاد أبان عن إخفاقه، فتراجعت مصر عن طلب الانضمام، لأنها اتجهت أفقيا إلى المشرق.
لم يبق من سمات تحالفات المرحلة شيء. وبعد أن وقفت القاهرة ودمشق إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي في صف واحد، انزاحت سوريا من المعادلة، كما حدث للعراق سابقا. فالأزمات تتناسل بقوة السهو والإهمال وعدم استقراء الأحداث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى