الرأي

لحظة أرخميدس (3 ـ 3)

بقلم: خالص جلبي
أصدرت اليونسكو سابقا سلسلة شهيرة باسم هذا الرجل، وكانت تصلني مترجمة، ومن أحد أعدادها استفدت فكرة الانفجار العظيم، حيث كان يصدر كل عدد يتناول مسألة محددة فكانت نشرة صغيرة دسمة، حتى توقفت بسبب التمويل الهزيل. وهو من مصائب العرب في هذه الأيام.. فيتوقف العلم وينزح أهله مثل السوائل من وسط أقل كثافة إلى وسط أشد كثافة، فينطبق عليهم ما جاء في الإنجيل؛ أن من عنده يزاد، ومن ليس عنده يؤخذ منه.
و(هيروفيلوس Herophilus) الفيزيولوجي الذي أثبت أن الدماغ وليس القلب هو مركز الذكاء.
و(هيرون) الإسكندري مخترع القطارات ذات التروس (الدواليب المسننة) والمحركات البخارية، ومؤلف كتاب (الأتمتة) الذي هو أول كتاب عن أجهزة الروبوت.
أما (أبولونيوس Apollonius) فهو أبو القطوع! كالقطع الناقص والمكافئ والزائد، وسميت كذلك لأنه يمكن الحصول عليها بقطع الشكل المخروطي بزوايا مختلفة، وبعد 18 قرنا استخدم (يوهان كبلر) هذه المعلومات لفهم حركة الكواكب لأول مرة، ووصل إلى قوانينه الثلاثة الشهيرة، التي ينص الأول منها على أن حركة الأرض حول الشمس تتم على شكل إهليلجي وليس دائري.
و(بطليموس) الذي كان عبقريا يمكنه أن يعدل آراءه، ولكن رؤيته للنظام الشمسي ورطت الكنيسة والعقل البشري والتقدم العلمي بكوارث كاملة.
ويقابله (أريستارخوس Aristarchus) الذي أكد أن الأرض هي أحد الكواكب وتدور مثلها حول الشمس، وأن النجوم موجودة على مسافات كبيرة جدا، ولكن الذي حدث أن فكرة بطليموس هي التي سادت بسبب تبني الكنيسة لها، شاهدا على أثر العقائد والمؤسسات الدينية في نشر لون من الفكر الإنساني.
ويشهد للتوجه الحر الجغرافي الإسكندري (سترابو Strabo) الذي قال ساخرا عن أولئك الذين يتحججون بالمحيط عن الدوران حول الأرض، إن المانع هو في عقولهم وإرادتهم أكثر من مياه المحيط، «لقد عادوا بسبب الافتقار إلى التصميم وندرة المؤمن».
وهو ما قاله أيضا (إيراتوسثينس) إنه إذا لم يكن اتساع المحيط الأطلسي عائقا، فإننا نستطيع أن نعبر البحر بسهولة من إيبيريا إلى الهند..
ومنهم امرأة يقال لها (هيباتيا) التي سقطت شهيدة في أزمان التعصب الكنسي فافترضوا هرطقتها، ويرتبط استشهادها مع تدمير مكتبة الإسكندرية بعد سبعة قرون من تأسيسها.
ومن أعجب الأمور أن كولومبس درس أفكار إيراتوسثينس وسترابو، وحسب محيط الكرة الأرضية بشكل مغشوش لإقناع العائلة المالكة في إسبانيا بسهولة الرحلة وكبر غنائمها، ولكن الغش هو الذي غير العالم كما نعرف من رحلة الجنون التي قام بها هذا المجنون. فالجنون يحكم العالم.
ويقول ساغان معقبا على مدرسة الإسكندرية التي أصبحت للتاريخ بهذه الجملة الحزينة:
«كانت الإسكندرية خلال 600 عام التي بدأت منذ عام 300 قبل الميلاد، هي المكان الذي انطلقت فيه الكائنات البشرية في المغامرة الفكرية، التي قادتنا إلى تخوم الفضاء. إلا أنه لم يبق شيء يمكن مشاهدته والإحساس به من تلك المدينة الرخامية المجيدة، فالظلم والخوف من التعلم أزالا كل شيء تقريبا من ذاكرة المدينة القديمة».
أما قصة هذه المخطوطة فهي من قصص المغامرات، وتبدأ رحلة الكتاب من بيزنطة، حيث تمت كتابة أفكار الرجل الرياضية في مجلد خاص، بحبر بني على جلد البارشمان (Parchment)، فاختار الكاتب سبعة فصول في علم الرياضيات تعتبر أهم ما أنجزه عقل هذا العبقري.
ويضم المجلد أيضا مقالات لأرسطو، وبعض الخطابات من العصر اليوناني الذهبي في قطعة نفيسة من الفكر الإنساني.
كان هذا أيام النهضة العقلية في بيزنطة، قبل أن تقع في قبضة المتشددين الذين يصبون العلم في قوالب إيديولوجية.
كان هذا عام 950 ميلادية،
إلا أن بيزنطة بدأت رحلة الانحدار، وحدثت الكارثة في عام 1229م، حيث وقعت المخطوطة الأصلية في يد رجل دين ليس من أجل قراءتها، بل أحضر هذا (المتحمس) عصير ليمون وإسفنجة وبدأ في الدعك والدعس والكشط محاولا إزالة أثر الكتابة!
قام بمحو العلم وهو يتلو التراتيل باسم كل القديسين، ثم قام بعد كشط هذه المخطوطة العظيمة من علم الرياضيات والعصر الذهبي في أثينا، بكتابة سخافته الدينية فوقها، والتي كانت من الجلد لحسن الحظ؛ فحفظت بصمات الكتابة الأولى عليها!
بعدها قام الإيديولوجي وبسكين فقطع المخطوطة في منتصفها وطواها اثنتين، ثم حضرها لكتابة مختلفة.
لقد أظهرت التحريات أن رجل الدين هذا لم يعتد فقط على مخطوطة أرخميدس، بل قام بكشط الجلد في خمسة كتب أخرى نفيسة.
ومما محا من هذه المخطوطة عشر صفحات للخطيب اليوناني (هايبريدس Hyperides) الذي عاش عام 350 قبل الميلاد في أثينا، مع تعليق قديم بخط أرسطو.. المعلم الأول.
وتبدأ قصة الكشف عن هذه المخطوطة إلى ما قبل 150 عاما، حين عرف قيمة هذه المخطوطة الباحث (كونستانتين فون تيشندورف Konstantin von Tischendorf) من لايبزيغ في ألمانيا، حين كان الأول الذي اطلع عليها في القدس بمكتبة كنيسة قبر السيد المسيح.
وفي عام 1906 قام العالم الدانماركي الجليل (يوهان لودفيج هايبرغ Johan von Heiberg) برحلة إلى الشرق، ويصفه أقرانه أنه كان عظيم الجسم بلحية كثيفة مجعدة.
ومن الغريب أن المخطوطة عثر عليها في إسطنبول بدلا من القدس، فكيف رحلت إلى هناك؟
قام هايبرغ بشغف بقراءة المخطوطة بالكامل وترجمها، وكان حال المخطوطة لا بأس بها حينها قبل قرن من الآن ونسخ رسومات الرياضيات، وهناك أربع صفحات صبغت برسومات ملونة لم يستطع قراءة الكتابة فيها.
بعدها بقدرة ساحر طارت المخطوطة من إسطنبول إلى يد عائلة فرنسية، أما من وكيف حدث هذا الطيران؟ فلا إجابة. وأقسم البطريك المسؤول عن المعبد في إسطنبول (تيموثيوس فون فوسترا Timotheus von Vostra) أن لا علم له بشيء.
وهكذا فقد رسا مصير المخطوطة في جعبة السيد الفرنسي الرحالة (ماري لوي سيريه Marie Louis Sirieix) وكان ذلك عام 1923م، ولكن ليس من دليل ولا (وصل استلام) بالمبلغ أنه بيع من مكان محدد، فقد كانت تجارة سوداء تعبث بالمخطوطة التي بدأ الشحار الأسود والعفن يأكل فيها، خاصة حين حفظت في باريس في قبو بارد معفن.
وقبل أن يموت التاجر الفرنسي سيريه عام 1956م زين الكتاب بأربع صفحات ملونة من صور قديسين بقصد بيع المخطوطة. وانتقلت المخطوطة إلى يد ابنته، التي عرضتها أخيرا للبيع في السبعينات، من خلال 200 بروشور أرسلتها إلى متاحف العالم.
وأخيرا وقع الرهان في 29 أكتوبر من عام 1998م، حين عرضت المخطوطة في الأنترنت تحت الشيفرة (أوريكا 9058)، فبيعت في المزاد العلني بمعرض (كريستي)، حيث حاول بطريك القدس من جديد استرداد المخطوطة فخسر الدعوى قضائيا لبعد الزمن، وحاول القنصل اليوناني دخول المزاد العلني بأي ثمن، ولكن ملياردير الأمازون (جيفري بيزوس Jeffrey Bezos) (صفحة بيع الكتب في الأنترنت) كان له بالمرصاد، فقد انسحب القنصل عند الرقم 1.9 مليون دولار، واشتراه الملياردير بدون أن يفصح عن اسمه بمبلغ 2.2 مليون دولار.
فأين عيون أرخميدس الدرويش لترى مخطوطته كم أصبح ثمنها، وهو الذي كان يطوي خاوي البطن لا يهمه سوى العلم؟
وحسنا أن وقعت المخطوطة ذات 174 صفحة في يد مالك الأمازون؛ فقد أعطاها للمتحف الفني في بالتيمور لفك سرها النهائي، وبالتعاون مع وكالة «ناسا» واستخدام المسرع النووي الفيزيائي، واستخدام أشعة رونتجن وما فوق البنفسجية، أمكن الوصول إلى الأسطر الممحية بطريقة في غاية البراعة، وبذلك قرئ النص للمرة الأولى على نحو كامل.
ولعل فكرة العالم النحرير تسعفنا في وضع العالم المادي في مقابل عالم القيم والمثل، فهو كان يرى أن جميع السوائل محدبة الوجه مرتبطة بمركز الأرض، وهي فكرة تقترب من الجاذبية، وهي سطوح مائلة عوجاء غير مستقيمة. ولكن أين الاستقامة في حياة الناس؟ وكم هي عدد الأمور العوجاء الشوهاء البتراء في هذا العالم المشبع بالظلم والأحزان.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى