الرأي

«لعبة الورق» بين ساحة الأمم ومدينة وجدة

سأل وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إحدى صديقاته المغربيات، عن سبب تأخر المستشار أحمد رضا كديرة في الحضور إلى موعد كان يلتئم عند زيارته المغرب، في فيلا صغيرة، تطل على الساحل الأطلسي في «عين الذياب» غرب الدار البيضاء. أجابته بأنه في طريقه إلى المكان، ثم استدركت بأنه سيتأخر قليلا، لأن ضيفا إفريقيا أبى إلا أن يرافقه إلى ساحة الأمم وسط المدينة.
ليس من عادة كديرة، وقد أتى من وزارات عديدة، بينها الداخلية والفلاحة والخارجية والتعليم، أن يرافق زوار المغرب، لأنه يهتم بدراسة الملفات وتحضير المرافعات السياسية والقانونية، لكنه في هذه القضية تحديدا، أي استحضار ذكريات مغربية – إفريقية، خرج عن النص. ولم يخنه حدسه في أن أكبر التحديات التي سيواجهها المغرب، ستكون الساحة الإفريقية مسرحا لها.
وقع هذا في الوساطة التي قادها جمال عبد الناصر وهيلاسي لاسي وزعماء أفارقة لتحقيق وقف إطلاق النار بعد المواجهة العسكرية بين المغرب والجزائر، ضمن ما يعرف بـ«حرب الرمال»، ثم لاحقا لنزع فتيل اندلاع حرائق مماثلة عام 1976. وليس آخرها يوم أقرت الرباط استخدام «حق المطاردة» لتعقب فلول المعتدين القادمين من أراض واقعة تحت النفوذ الجزائري.. والبقية معروفة إلى اليوم.
حكت الصديقة في وقت لاحق، أنها التقطت مقاطع مبعثرة من حوار دار بين كديرة وبوتفليقة حول ذكريات استضافة المغرب المؤتمر الإفريقي في الدار البيضاء، في حضور زعامات وازنة، من بينها الرئيس المصري جمال عبد الناصر والغيني أحمد سيكوتوري ومودي بوكيتا وغيرهم. ولاحظت آنذاك أن عبد العزيز بوتفليقة لم يكن يبدي حماسا إزاء تلك الوقائع، على رغم أنه اختار اسمه المستعار في فترة الكفاح ضد الوجود الفرنسي في الجزائر، كناية بدولة مالي الإفريقية التي زارها مرات عدة.
كانت تلك الصديقة مهتمة بالأدب والمسرح والفنون، لا يغويها حديث السياسيين، خصوصا حين تكتنفه الرموز على مائدة «لعبة الورق» المفضلة لدى سياسيي المرحلة. والأغرب أن كديرة وبوتفليقة تواجها عبر القنوات الدبلوماسية يوم كان الأول وزيرا لخارجية المغرب. واحتفظا في ضوء ذلك بخيوط صداقة رفيعة، على أمل أن الأبواب حين تغلق نهائيا، تستطيع الصداقات أن تفتح لها هوات يتسرب منها بعض الهواء. غير أن وقائع دالة ستكشف أن كديرة وجد في وزير جزائري آخر في الخارجية هو أحمد طالب الإبراهيمي متسعا من الحوار، لم يكن بنفس الحدة التي اتسمت بها مواقف عبد العزيز بوتفليقة وزيرا للخارجية، ثم رئيسا للدولة الجزائرية.
تذكرت الحكاية وأنا أقلب صفحات من ملف العلاقات المغربية – الإفريقية، وقد وصلت من التجني والحماقة إلى المدى الذي أصبح فيه «الاتحاد الإفريقي» خصما مناوئا لعدالة القضية الوطنية. وكان يكفيه العودة إلى سجل مؤتمر الدار البيضاء لعام 1961، ليتأكد من أن قراراته أنصفت المغرب، عندما تبنت دعم موقفه في تصفية الاستعمار من كافة أرجاء البلاد. واقترنت تلك القرارات بطرح ملف الخلافات بين الرباط ومدريد حول قضية الصحراء ومستقبل سبتة ومليلية المحتلتين شمال البلاد.
من اللحظات المشرقة في وقائع ذلك المؤتمر، أن الوفد الجزائري الذي كان يضم مندوبين عن الحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة فرحات عباس، ساند المغرب بقوة في مطالبه المشروعة. من جهة لأن الجزائر كانت تعول كثيرا على دعم المغرب في كفاحها من أجل الاستقلال، بكل ما أوتي من قوة وصلابة وإيمان بعدالة القضية الجزائرية، ومن جهة ثانية لأن بوادر الانعتاق الإفريقي انطلقت من قمة الدار البيضاء التي رفعت لواء تحرير ووحدة الدول الإفريقية.
لو كان المؤقت يدوم لما انتكست العلاقات المغربية – الجزائرية إلى مستوى انحدار غير أخلاقي. وقد يكون بسبب صدور قرارات مؤيدة للشرعية المغربية في قضية الصحراء من طرف منظمة الوحدة الإفريقية، منذ سنة 1961، رأى المغرب بعد اندلاع التوتر أن لا أفضل من الساحة الإفريقية لاحتواء الموقف المتدهور، بخاصة وأنه كان سباقا إلى تسجيل تحفظاته واعتراضاته على فكرة احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار، التي عملت الجزائر جاهدة على تمريرها في ديباجة توصيات إفريقية.
صار في الإمكان معرفة الخلفيات التي تحكمت في إطاحة الحكومة الجزائرية المؤقتة. ليس حيال تموقع الأجنحة التي كانت تتصارع على الاستئثار بالسلطة داخل جزائر ما بعد الثورة، ولكن بالذات على صعيد محور العلاقات مع جارها الغربي. ولئن كانت حماقات الرجال الذين يملكون سلطة التوقيع واتخاذ القرار يمكن أن تؤدي إلى مزالق تاريخية، شأن ما حدث مع كل من الرئيسين الجزائريين أحمد بن بلة وهواري بومدين.. فلا أقل من حصر وتطويق الخسائر، كي لا تنسحب على علاقات الدول، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
أختم بحاكية زيارة ساحة الأمم المتحدة، وفيما كان كديرة يستحضر إلى جانب ضيف المغرب الإفريقي جانبا من الصورة المشرقة لقمة الدار البيضاء الإفريقية.. كان بعض الحنين يتملك وزير خارجية الجزائر في الإطلالة على الأحياء التي آوته في وجدة.
الفرق أن ساحة الأمم كانت مشرعة أمام الآمال الإفريقية العريضة التي تتطلع نحوها الشعوب والدول الإفريقية، بينما وجدة صارت علامة فاصلة في صراع جزائري من نوع آخر، يقال إنه يتعلق بمسألة إغلاق الحدود من طرف واحد. لكن الصحيح أنه يطول إغلاق المنافذ التي تشرئب إلى المستقبل.
سهوت في معرض الحكاية أن أسأل الصديقة التي غابت من ربح لعبة الورق ذاك المساء، مع أن الرابح الأكبر من يرسم خطوط الطول والعرض لبناء الثقة وطي الصفحات التي لا تصلح حتى للاستظهار المأساوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى