دين و فكر

لغز توقف مسيرة العلم في حضارتنا

إلياس بلكا
يوجد سؤال طالما ردده الباحثون، وهو إلى لآن يظل بلا جواب تام وأخير، فيما أعلم:
لقد كان مستوى العلم – في العصر الوسيط- في الحضارتين الإسلامية والصينية أكثر تقدما بمراحل عن مثيله في أوربا، بل إن العلم الإسلامي فاق كثيرا العلم الصيني الذي كان يأتي في الدرجة الثانية من التطور، وبعده بمسافة بعيدة جدا العلم الأوربي. ويعود هذا التفوق الإسلامي العالمي إلى أن الحضارة الإسلامية هي التي اكتشفت المنهج التجريبي للعلوم، فالأدلة على ذلك كثيرة. ولذا ذهب كثير من المفكرين ومؤرخي العلم من الغربيين – فضلا عن العرب والمسلمين – إلى أن النهضة العلمية في أوربا مَدينة في بدايتها للعلوم التي نقلتها عن العالم الإسلامي، والتي تسري فيها روح واضحة من النهج التجريبي القائم على الفرض والملاحظة والتجربة، كما أوضح ذلك الأمريكي جورج سارطون في موسوعته الشهيرة: تاريخ العلم. والمصري سامي النشار في: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي. والهندي محمد إقبال في: تجديد الفكر الديني في الإسلام. وجلال موسى في: منهج البحث العلمي عند العرب. وياسين عريبي في: تأسيس العلوم عند العرب.. وغيرهم كثير.
لكن تبقى المشكلة هي إلى أي مدى استفاد المسلمون من هذا المنهج الذي اكتشفوه، والذي يسمح – نظريا- بتحقيق تقدم علمي وتقني هائل، كهذا الذي نعيشه الآن..؟
لقد اهتم طوبي هاف -الأستاذ بقسم الأنثروبولوجيا، بجامعة مساشوستس- بهذه الإشكالية، وخصّص لها كتابه المهم « فجر العلم الحديث» والذي تُرجم إلى العربية، محاولا الإجابة عن السؤال الكبير: لماذا نشأ العلم الحديث في الغرب دون حضارتيْ الإسلام والصين، رغم أنهما كانتا أكثر تقدما من أوربا؟ يقول: «كان العلم العربي -على الأرجح- أكثر العلوم تقدما في العلوم، وقد تجاوز بكثير ما كان في الغرب وفي الصين، في كل ميدان للبحث…(و) إذا كان العلم العربي له التفوق التقني والعلمي على مدى أكثر من خمسة قرون، فلماذا لم ينجِب العلم الحديث؟… يشكل هذا الموقف مشكلة محيرة للباحثين في المائة والخمسين سنة الأخيرة…»
وقد اعتبر أبو الحسن الندوي أن المسلمين – في طور الانحطاط- غلّـبوا الاشتغال بالفلسفيات والإلهيات والتصوف على العلوم العملية، ثم قال: «أما ما وصل إليه المسلمون في العلوم الطبيعية والتجريبية، فإنه وإن كان أرقى من العصور السابقة وأكثر ثروة في العلم والاختبار، إلا أنه لا يتناسب مع فتوحهم الواسعة في دوائر علمية أخرى، ولا يتلاءم مع المدة الطويلة التي تمتعوا بها في التاريخ، ولم يظهر فيها من النوابغ والعبقريين مثل ما ظهر في موضوعات أخرى. وإن ما خلفوه من كتب في الطبيعيات والكونيات والتجارب العلمية، وإن كانت مما استفادت به أوربا في نهضتها وأقرت بقيمتها، إلا أنها تتضاءل جدا أمام هذه المكتبة الهائلة الزاخرة التي أنتجتها أوربا في القرنين السابع عشر والثامن عشر فقط. فمهما افتخرنا بآثار علماء الأندلس وحكماء الشرق، فإنها لا تعد شيئا بجانب الإنتاج الغربي الضخم في العلم والحكمة والتجربة والاختبار، لا في الكمية ولا في الكيفية، ولا في الإبداع ولا في الابتكار، ولا في التدقيق العلمي ولا في الإتقان الفني. وإذا أردت أن تعرف مقدار عناية الشرق الإسلامي بالناحية الروحية، ونسبتها إلى الناحية العلمية والتجريبية، فقارن بين كتاب الفتوحات المكية للشيخ ابن عربي مثلا وبين أكبر كتاب في الطبيعيات والحكمة، تر فرقا هائلا في ضخامة المادة والعناية بالموضوع والجهاد في سبيله، وبذلك تعرف ذوق الشرق الغالب عليه».
وقد يكون في هذا الكلام بعض الصحة، لكنه منتقَد من وجوه، إذ ينبغي أن ننتبه إلى بعض الأشياء:
1 – إن هذه المقارنة بين التراث الإسلامي في العلوم والتراث الغربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر أغفلت أمرا مهما، وهو أن التراث الأول لم يكن قد وصل إلى مرحلة الثورة وانفجار المعرفة، فقد كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الوثبة الأخيرة التي كان من المفروض أن تؤدي إلى ولادة ما يعادل الآن العلم الحديث والتقنية الحديثة. وهذا العجز الأخير هو الإشكال الذي حاول هاف – وغيره- حلّـه والإجابة عليه. أما التراث الثاني فيقوم بعد أن أنجزت أوربا الخطوة الأخيرة، أي بعد تحقيقها للثورة المنتظرة، والتي كانت مقدماتها – في أكثرها- مِلكا للعالم الإسلامي.
هذه المقارنة الزمنية بين التراثين تشبه مقارنة الإنتاج العلمي للقرن العشرين بإنتاج أحد القرون الأربعة قبله، وهي مقارنة غير دقيقة، بل غير مشروعة، لأن نموّ العلم- في العصر الحديث- يتم بما يشبه المتوالية الهندسية لا العددية، ولذا يقال إن المعرفة- اليوم- تتضاعف في كل سبع أو ثمان سنين وفي كل المجالات تقريبا.
2 – ومن المعروف أن جمهرة واسعة من الباحثين الغربيين لم يدخِلوا العلم العربي–الإسلامي في تأريخهم للعلوم، أو إذا فعلوا فعلى وجه العجلة والاختصار، إن لم يكن بنسـبةِ كل فضل في التراث العلمي للمسلمين إلى اليونان وعلومهم. ولذلك وقع انحراف في التأريخ للعلوم، ولكننا الآن واعون به.
وقد كان بدا لي رأي يفسر جانبا (فقط) من الإشكال، أعني توقف تقدم العلم في تاريخنا، لكنني أحجمتُ عن ذكره وإيراده هنا لما تبيّن لي تعقّـد الموضوع وصعوبته.
لعل في الشباب الباحث من يتصدّى للإجابة عن هذه المشكلة الفكرية والعمليّة، والتي يبدو أنها لا تزال حاضرة بيننا بشكل أو بآخر، حيث يمكن القول إننا –خاصة بالجناح العربي من العالم الإسلامي- لم ندخل بعد في الفضاء العلمي والمعرفي والتقني حقّ الدخول، إذ ليس لنا مشاركة معتبرة في مسيرة العلوم على اختلاف أنواعها. فهل لهذا الوضع علاقة بإشكالية توقّف العلم الإسلامي وعجزه عن إنجاز القفزة الثورية الأخيرة.. والتي ربما كنـّـا قريبين جدا من تحقيقها في القرنين الخامس والسادس الهجريين؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى