الرأي

لماذا إعلان الحداد على قضاء الوطن؟

إن النصوص التنظيمية للسلطة القضائية لا يمكن أن تناقش وفق مفهوم الأغلبية والأقلية، لأنها مشروع مجتمعي يروم تحقيق استقلالية السلطة القضائية، يجب أن يعكس الإجماع الوطني الممثل في روح الدستور والتنزيل السليم له لتدعيم البناء الحقوقي ودولة الحق والقانون. فالأمر يتجاوز منطق المغالبة ونظرية الاستعداء للسلطة القضائية، لأننا نشرع لقضاء الوطن لا مكان فيه لمنطق الربح والخسارة، وتسجيل النقاط، بل منطق المصلحة الوطنية لينهض قضاء الوطن في حماية حقوق وصون حريات المواطنين، لأن خسارة استقلال القضاء خسارة ليس للقضاة وإنما للمواطن بصفة أساسية، لكن للأسف فالطريقة التي تعاملت بها الحكومة وأغلبيتها البرلمانية مع مناقشات مشروع قانون السلطة القضائية بلجنة العدل والتشريع، تكشف الوجه المتردي للسياسة حينما تتنكر للمصلحة العليا لقضاء الوطن، وتركب موجة الهيمنة والتحكم في الجهاز القضائي لصالح قضاء التبعية لوزارة العدل، من خلال إعدام الوجود الحقيقي والفعلي للسلطة القضائية التي أصبحت مجرد مجلس أعلى للسلطة القضائية، تتحكم في تسيير دواليبه وتنفيذ قراراته وزارة العدل، معزول عن المحاكم والشأن القضائي الذي يوجد تحت سيطرة الوزارة.. كما أن المسؤولين القضائيين يخضعون لتقييمها مما يفتح منافذ تأثير السلطة التنفيذية على المحاكم والقضاة من خلال اقتراح تأديبهم وعزلهم وحرمانهم من ترقياتهم ليخضعوا لها وينفذوا توجيهاتها ليسلموا من كل ضغط أو تعليمات أو عقوبات تأديبية، الشيء الذي سيجعل القاضي تحت رحمة المسؤول القضائي والوزارة، لا يستطيع لا الصمود ولا مجابهة التأثيرات على أحكامه وقراراته القضائية، ما سيضعف من استقلاله إن لم يعدمها من أصلها.
ناهيكم عن أن مشاريع العبث والانتكاسة القضائية تنتقم من القضاة وتصورهم كخصوم يتنازعون الوزارة الصلاحيات، ما أبرز غياب أي فكر دستوري يؤمن باستقلالية السلطة القضائية، فاستدعى ذلك تحجيم وجودها وإضعاف الضمانات الفردية للقضاة، وعلى رأسها عدم إحداث مجلس دولة كهيئة قضائية إدارية عليا، والمساس بحصانة القضاة ضد النقل من خلال شرعنة الانتدابات وتنقيل القضاة بسبب الترقية، وفتح منافذ جديدة للتأثير على استقلال القضاء عن طريق الإبقاء على إشراف السلطة الحكومية على التدبير المالي والإداري للمحاكم.. فكيف يمكن الحديث عن سلطة قضائية لا يملك فيها الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية شراء قلم واحد تحتاجه المحاكم؟ لذلك فإن أي سلطة بدون استقلال مالي سلطة صورية لا وجود لها ولا روح فيها.
فتشريع الانتكاسة والردة الدستورية أعدم وجود السلطة القضائية من أساسها لفائدة قضاء التبعية العدلية. فنموذج واحد من عشرات النماذج غير الدستورية في مشروع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ينبئ عن عقلية غير دستورية مستحكمة غيبت المعطى الدستوري لاستقلالية السلطة القضائية.. تصوروا كيف أن الشعب صوت بالإجماع على مقتضى دستوري – الفصل 115- يخرج وزير العدل من تشكيلته إيذانا بنهاية وجوده في المشهد القضائي برمته، لنفاجأ بأن المشروع المصادق عليه أعاده من النافذة بعدما خرج من الباب الواسع غير مأسوف عليه، ليقرر حضوره الدائم في عضوية المجلس متى طلب ذلك ولا يمكن أن يرفض طلبه مطلقا.. إنها الهواية في التشريع والتحكم في القضاء، وكأن المجلس قاصر والوزير راشد يحتاج إليه بقوة القانون، فوزير العدل سيشارك مستقبلا في تأديبنا وعزلنا وحرماننا من ترقيتنا، إنه نموذج فاضح لخرق الدستور لا يسقط فيه حتى المبتدئون في مجال القانون، أقول لهم: «شرعوا ما تشاؤون ستفشلون حتما لأن هناك محكمة دستورية ستوقف مسرحية العبث، وهناك ملك ضامن لاستقلالية السلطة القضائية لن يسمح بقضاء تابع للأغلبية الحكومية، بل قضاء وطني أصيل يحمي الحقوق والحريات ولا يخاف منه ولا يتحكم فيه».
وفي ما يتعلق بتقديم الوكيل العام للملك بمحكمة النقض تقريرا عن السياسة الجنائية، ومناقشته أمام البرلمان، فإننا نعتبر ذلك مخالفا للدستور ولا يمكن تقرير قاعدة غير دستورية، لأن السلطة القضائية سلطة مستقلة لا يمكن مراقبتها من طرف البرلمان، لأنه دستوريا يراقب فقط السلطة التنفيذية، فضلا عن أن الدستور، ولاسيما أن الفصل 160 منه قطع الشك باليقين بتحديده على سبيل الحصر المؤسسات التي تقدم تقارير أعمالها للبرلمان، وهي مؤسسات الحكومة وبعض المؤسسات العامة، وهكذا اعتبر المجلس الدستوري المغربي في قرار آخر له صادر بتاريخ 4 فبراير 2012، «إن الفصل 160 من الدستور لئن كان يوجب على المؤسسات والهيآت المشار إليها تقديم تقرير عن أعمالها مرة واحدة في السنة على الأقل، فإنه ينص على أن هذا التقرير يكون موضوع مناقشة من قبل البرلمان، ولا ينص على أن هذه المؤسسات تقدم تقريرها أمام مجلس النواب، كما تقضي بذلك الفقرة الأولى من هذه المادة، مما يعني أن مناقشة هذا التقرير داخل مجلسي البرلمان تكون بين أعضاء كل منهما في ما بينهم وبمشاركة الحكومة وليس مباشرة مع المسؤولين عن هذه المؤسسات والهيئات». الجريدة الرسمية عدد 6021 بتاريخ 13 فبراير 2012 الصفحة 655.
وفي الاتجاه نفسه جاء في قرار للمجلس الدستوري الصادر بتاريخ 21 مارس 2005، «إن الدستور عند تعرضه لمبدأ وأشكال مساهمة طرف خارجي عن البرلمان في أعمال هذه المؤسسة ضمن جلسات مجلسيها أو اجتماعات لجانها الدائمة، فإنه أقام بالنسبة لهذا الطرف الربط بين الحق في حضور هذه الاجتماعات وحق المشاركة في أشغال المؤسسة التشريعية، مع ما يترتب عن ذلك من أخذ الكلمة عند طلبها، وأنه بذلك جعل من تخويل الحق الأول مدخلا لممارسة الحق الثاني.
ليس في الدستور ما يفيد لوالي بنك المغرب الحق بهذه الصفة في حضور جلسات مجلسي البرلمان واجتماعات لجانهما الدائمة، وهو الأمر الذي يستخلص منه أنه إذا كان بالإمكان أن يطلب الاستماع إليه من طرف اللجان الدائمة المكلفة بالمالية ضمن المجلسين، فليس له الحق بأن ينصت إليه بمجرد هذا الطلب».
ويجب الإقرار بعدم جدوى وجوب تقديم الوكيل العام للتقرير أمام البرلمان، إذ لا يترتب عنه أي مفعول قانوني، فاللجان البرلمانية لا تملك اتخاذ أي إجراء بحقه، فضلا عن أن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية، ولا يجوز استبدال هذه الضمانة بما هو أدنى منها باعتباره الممثل الأسمى للأمة، والحكم بين السلطات.
ولا يفوتنا أن نشكر ونسجل لفرق المعارضة الوطنية البرلمانية موقفها التاريخي برفض الوصاية على القضاء وتكريس تبعيته لوزارة العدل، ونعتبر أن القضاة وجمعياتهم المهنية لن يبقوا مكتوفي الأيدي أمام مشروع إهانة السلطة القضائية وتمويتها، والرد حاسم وقوي لمواجهتها لإيقاف عبث مشاريع الردة والانتكاسة والعبث القضائي والانتقام من القضاة، مما استوجب منا كقضاة فاعلين في الحراك القضائي إعلان الحداد على قضاء الوطن لأن تصويت ومصادقة الأغلبية البرلمانية وحكومتها على مشروع قانون المجلس الأعلى لقضاء وزارة العدل بدون مناقشة، وتصويت ومصادقة فرق المعارضة البرلمانية يجعلها مصادقة على الفئوية والانقسام والتحكم بحق قضاء الوطن، كان يفترض حصول الإجماع الوطني من طرف ممثلي الأمة لكن خاب المسعى من طرف كل من حمل شعار استقلال القضاء للمزايدة السياسوية والانتخابوية. فعلى جميع المشرعين أن يعوا أنهم يشرعون لوطن وليس لقضاة، نحسب فيه حساب الربح والخسارة، وإنما يشرعون لسلطة قضائية مستقلة لطالما حلم بها الجميع باعتبارها الدعامة اﻷساسية ﻹقامة دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات. فلا تفوتوا الفرصة على بلدنا العزيز، لأننا مستعدون لأقوى رد لتحصين استقلالية السلطة القضائية في مواجهة مشاريع الانتكاسة; رد لم يقم به القضاة في التاريخ.. رجاء لا تجربوا نفاد صبرنا.
مداخلة في الندوة الترافعية لتقديم مذكرة النسيج المدني للدفاع عن استقلال السلطة القضائية حول «مشروعي القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة».
الأربعاء 15 يوليوز 2015 على الساعة 15.30 بقاعة الندوات بمجلس المستشارين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى