الرأي

ليس الديناصور وحده من ينقرض

سعيد الباز
تتسارع وتيرة التطور خاصة في الآونة الأخيرة إلى حدّ أننا نكاد لا ننتبه إلى أشياء كانت حاضرة وملازمة لحياتنا إلى عهد قريب، ثم زالت أو انسحبت بشكل صامت وخفيّ كأنها تشعر ببعض الخزي لأنه لم يعد لها مكان بيننا. أحيانا تبقى الذاكرة وحدها من تحتفظ بها وتسترجعها كلما ألمّ بالمرء بعض الحنين إلى الزمن الماضي. نسي الناس تماما أكشاك الهاتف المزدحمة بروادها، والأخرى المنصوبة على نواصي الطرق والممرات حيث كانت تُجْرى الآلاف والآلاف من المكالمات العابرة للمدن أحيانا والبلدان أحيانا أخرى. ها هي هذه الهواتف المعدنية التي كان رنين العملات في صندوقها الداخلي عنصرا مكملا للمكالمة، قد زالت واختفت وأصبح الهاتف شأنا فرديا مفتوحا على العالم ليس بالصوت وحده بل بالصورة أيضا.. فليس الديناصور وحده من ينقرض.
انقرض الفيديو ومحلات كراء الأفلام التي كانت تؤثث سهرات من كان بمقدوره اقتناء هذا الجهاز العجيب الذي تسلل إلى صالونات البيوت وأبى إلا أن يجد لنفسه مكانا قريبا من جهاز التلفزيون ليكون غريما ومنافسا شرسا له.
انقرضت أيضا تلك الهوائيات النحيلة المرتفعة إلى عنان السماء لتنقل قناة أرضية وحيدة يتيمة أو قناتين في أحسن الأحوال، لتقتحم فضاءها، ذات زمن، صحون هوائية متعددة الأحجام لا علاقة لها بالأرض تولي وجهها شطر أقمار اصطناعية صار الجميع يعرف أسماءها ودرجات قياساتها أفقيا وعموديا وذبذبات ترددها وترميزها.
انقرض كذلك زمن الرسائل وزمن الطوابع البريدية، وسعاة البريد الذين كنا نعرفهم بشخوصهم ويعرفوننا بالاسم والعنوان، وتلك الأظرفة الملونة الحاملة لعناوين المدن والبلدان. ولم تتبق في الصناديق المثبتة على ظهر الأبواب في مداخل العمارات والمنازل سوى الرسائل البنكية في آخر الشهر وفواتير الماء والكهرباء المقبلة هي الأخرى على الانقراض. انتهى زمن كامل استغنينا فيه عن متعة الكتابة بتأنّق وعناية في الخط والتعبير بهذه الرسائل الإلكترونية السريعة والمشفّرة أحيانا، والتي يساعدنا الهاتف الذكي في كتابتها وصياغة عباراتها المسكوكة ويقترحها علينا بسخاء بارد خالٍ من أي شعور أو إحساس.
نحن الآن، رغم العديد من الرسائل الإلكترونية والهاتفية أشبه ما نكون ببطل رواية غابريال غارسيا ماركيز «لا أحد يكاتب الكولونيل» مثله لا يكاتبنا أحد، ولا ننتظر تلك الرسالة التي سنفتح مظروفها بعناية فائقة، ونحن نرتشف جرعات خفيفة من قهوة الصباح. الرسائل الشخصية اختفت اليوم في حياتنا والمتبقي منها إما في المحافظ القديمة حيث تجاور بعض الصور أو وثائق تعود إما لزمن الطفولة أو المراهقة، وإمّا تلك الصناديق الكارتونية الموضوعة بإهمال واضح في الجانب الأكثر عتمة من دولاب غرفة النوم، لا نفتحها في العادة إلا إذا وقعنا عليها من باب الصدفة المحضة أو كنا بصدد إعادة ترتيب ما للدولاب. أشياء أخرى هي مرشحة للزوال والانقراض الكثير منها قد بدت بعض بوادره بارزة للعيان بفضل التسارع القوي الذي يشهده التطور التكنولوجي، فجزء من معاملاتنا المالية والإدارية صار يتمّ اليوم بشكل رقمي وإلكتروني، وهذا الأمر آخذ في التطور ليصبح في المستقبل كليا. ما يعني بالضرورة أنّ الكثير مما تعودناه في أسلوب حياتنا، من مراجعة المكاتب والمصالح الإدارية والبنوك والوكالات في شتى الخدمات… سيخضع للاختفاء تدريجيا ويتحول تلقائيا إلى العالم الافتراضي الذي تتم من خلاله كل الخدمات والتعاملات الإدارية والمالية إما عبر الحاسوب أو الهاتف الذكي. الخلاصة هي أن الديناصور ليس وحده من ينقرض، وأنّ الأشياء محكومة بالزوال، لكن ذاكرة الإنسان عندما تستيقظ تعيد لكل منقرض الحياة من جديد، كما ألمح إلى ذلك الكاتب الشهير الغواتيمالي أوغستو منتيروسو في قصته القصيرة جدا (الديناصور): «… وعندما استيقظتُ، كان الديناصور ما يزال هناك».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى