الرأي

ماء للبيع

شامة درشول

 

 

 

الطقس في لشبونة لم يكن حارا مثلما تركته في مدريد، ومع ذلك استوقفني منظر حافلة صغيرة الحجم، مزركشة الألوان، كتب على أحد أبوابها «ماء للبيع».

الحافلة كانت متوقفة وسط حديقة بدورها توسطت شوارع لشبونة التي تتنفس تاريخا. داخلها وقفت شابة ترتب فوق طاولة مجموعة من القنينات، بدت زجاجية شفافة، وسطها ماء، لكن كل قنينة كان بها ما هو أكثر من الماء.

تقدمت من البائعة الشابة، وسألتها عما تعرضه، ابتسمت، وأجابتني بحماس: «هذه قنينات ماء، هذه قنينة ماء منسم بقشر الليمون، وهذه بقشر البرتقال، وتلك بقطع الأناناس، والأخرى بقطع الليمون والزعتر، وهذه بحب الكرز، وتلك بالفراولة. اختاري أي قنينة من هاته، وأمنحك منها كأسا تتذوقينه بالمجان، وإن أعجبك أحد هذه المذاقات، أملأ لك منها قنينة تختارين لونها، (برتقالي، أحمر، أزرق سماوي أو وردي)، مقابل 2 يورو، ويمكنك أن تشتركي في لعبة لربح جائزة أقدمها لك في الحال، سواء حلي، أو حقيبة، وكلها من مصنوعات بلدنا البرتغال».

راقتني كثيرا فكرة «ماء للبيع»، سألت الفتاة أي مذاق تقترح علي، فقالت لي إن الناس يقبلون بكثرة على الماء بمذاق الأناناس، والماء بمذاق الليمون والزعتر، ومدت لي بكأس لأجرب المذاقين قبل أن أختار، فاخترت الماء بمذاق الليمون والزعتر، واخترت أن يكون لون غطاء القنينة ورديا، وربحت جائزة عبارة عن عقد من عقيق، وتذكرت «الكراب».

منذ عشر سنوات، قرأت إعلانا يطلب شبابا يريدون تعلم كتابة وإخراج الأفلام الوثائقية، سارعت إلى التقديم، كنت وقتها قد دخلت غمار الصحافة، لكني لم أرد أن اظل حبيسة الكلمة، فأغراني الحكي عبر الصورة، وحين طلبوا مني في الامتحان الشفوي اقتراح فكرة لمشروع فيلم وثائقي اخترت أن يكون حول «الكراب».

«الكراب»، كان في وقت ما هو الحاكم الحقيقي في الأحياء بمدن المغرب، ينقل الماء، وينقل الأخبار، يصل، ويفصل، «القرابة»، كانت مهنة، وصاحبها كان يقابل باحترام، فهو من يزود سكان الحي بأوكسيجين الحياة، لكن أتى زمن بات فيه الكراب مجرد فلكلور يلتقط معه السياح وأبناء البلد صورا مقابل بضعة دراهم، والأمر من هذا، هو أن تشاهد الكراب وهو يتسول الناس الدراهم في المدينة العتيقة بالرباط، بعد أن كنا نحن الأطفال نتحلق حوله لنروي عطشنا من تلك الطاسة النحاسية الباردة، يبتسم لنا، ويربت على رؤوسنا.

فكرة حافلة الماء وماء للبيع، بالطريقة التي كانت تعرضها الفتاة، كانت فكرة جميلة، ليس للفكرة ذاتها، بل لذاك الجمال النابع منها. فتاة جميلة تقف وسط حافلة مزركشة بألوان منعشة، تعرض للمارة مبتسمة، هادئة، قنينات زجاجية ملأتها بالماء المعطر، تضعها في قنينات بلاستيكية بغطاء هو أيضا بألوان منعشة. فرق بين أن تشتري قنينة ماء من الدكان، وأن تروي عطشك من معين الجمال هذا.

تخيلت هذا المشروع بالمغرب، وتديره فتاة، ولا أدري لم تخيلت الفتاة عابسة متجهمة، صوتها أجش، أو تفتعله غليظا، حتى تطرد عنها من في قلوبهم مرض. كذلك «الكراب»، لم يعد سوى منظر قبيح، ليس فقط لتطفل المتطفلين عليه، وجعله أداة للتسول من المارة، أو الاستعراض الفج أمام بضعة سياح، بل لأنه أيضا منظر بات شاهدا على مهنة انقرضت، لكن كان يمكن لفكرة جميلة أن تعيد لها الحياة، والكرامة أيضا.

في لشبونة، هناك شوارع مليئة بالدكاكين، وداخلها أنواع وأشكال من قناني الماء للبيع، ومع ذلك قامت هذه الفتاة بتقديم فكرة بيع الماء في طبق صحي جميل. الماء هو ماء صنبور، وليس ماء معدنيا، لكن الإبداع كان في تقديم ماء الصنبور في شكل يشهي المارة في اقتنائه، ليس فقط من أجل شربه، بل أيضا من أجل الاستمتاع بشربه حتى قبل شربه.

كيف ذلك؟ حين اخترت المذاق الذي أريد، سألتني البائعة عن لون غطاء القنينة البلاستيكية الذي أريد أن أشرب فيه ماء بمذاق الليمون والزعتر، اخترت اللون الوردي، سألتني إن كنت أريد أن أضع القنينة في كيس ورقي جميل، أخبرتها أني أفضل أن أحمل القنينة في يدي، أخذتها، كان وزنها خفيفا، لكن مسكة القنينة كانت صلبة، بدت وأنها صنعت من نوع جيد من البلاستيك، وانتبهت إلى أن القنينة صممت بطريقة تجعلك تشعر بالراحة وأنت تحملها، بمعنى أنك لا تشعر بأنك تحمل قنينة في يدك. في طريق العودة إلى الفندق، انتبهت إلى أني شربت نصف ما بالقنينة، كان مذاق الماء لذيذا، لكني كنت أطيل النظر من الحين للآخر في لون غطاء القنينة الوردي، وأتأمل ما كتب عليها: «استمتع بمذاق الماء».

لم أشعر يوما باللذة وأنا أشرب ماء اقتنيته إلا في هذا اليوم الذي اقتنيت فيه ماء الليمون والزعتر من فتاة الحافلة، حتى أني احتفظت بالقنينة ذات الغطاء الوردي ورفضت رميها، حتى أن الطاسة النحاسية لكراب المغرب لم تغب عن ناظري وأنا أشرب منها طفلة.

ماء الكراب كان ماء صنبور يمكن أن يستمر على قيد الحياة لو أخضع نفسه للجمال، بدل الاستسلام للقبح، والمياه المعدنية قدمت مياها على أنها صحية لكن أغفلت تقديمها في طبق جميل، وماء فتاة الحافلة قدمت للمارة الجمال، قبل أن تقدم لهم ماء للبيع، وكأنها تعرف أنه ليس كل ماء للبيع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى