الرأي

ما مغزى فكرة النسخ في القرآن؟

بقلم: خالص جلبي

 

 

 

 

 يذكر الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه «هل للإنسان مستقبل» واقعة جرت لحمار له في الزريبة، أن ناراً شبت فيها فهرع القوم لإنقاذه فأبى؛ فبذل الخدم جهدا غير عادي في محاولة إقناعه بالخروج قبل أن تلتهمه النيران، فلما عجزوا لم يكن لهم بد من إخراجه منها بالقوة، لأنه لا يعرف مصلحته ولا يقدر الخطر ومعنى النار لحياته.

 يعلق الفيلسوف على هذه الواقعة فيقول إن الحمار معذور، فإذا أخذ الله ما وهب سقط ما وجب، ولكن البشر يتصرفون تماما كالحمير في كثير من الأمور، عندما يرفضون ما يفيدهم ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.

 ولكن عندما نصف تصرف بعض الناس بالجنون والحماقة لا يقربنا من فهم آلية ما يحدث، فلماذا يتصرف البشر ضد مصلحتهم في كثير من الحالات؟

 في عام 1940 تقدم جراح ألماني اسمه (جيرهارد كونتشرGERHARD KUENTSCHER) من مدينة (كيل KIEL) إلى لقاء الجراحين الرابع والستين السنوي بمدينة (كولونيا KOELN) بتقنية جديدة مثيرة لمعالجة الكسور عندما كان يتأمل أعمال الحدادين؛ فإذا كان الجراحون قد استعاروا الإبرة والخيط من الخياطين، فلماذا لا نستخدم صفائح الحديد والأسياخ والبراغي؟ كانت المشكلة في كيفية تقبل الجسم لقطع الحديد الغريبة؟

 قام الجراح المذكور بتجاربه في شمال ألمانيا البارد بهدوء، فعالج إصابات كسور العظام الطويلة بفتحة صغيرة على الجلد فوق مستوى الكسر، أدخل منها عمودا غليظا من الحديد الصلب المعقم إلى تجويف العظم، مما أكسب الكسر ثباتا مثاليا، وجمع إحصائياته، ثم فاجأ المؤتمر بهذه التقنية المثيرة للجدل! كان أكثر المهاجمين جراح عظام نمساوي مشهور هو (لورنز بوهلر LORENZ BOEHLER)، الذي قال عن الفكرة الجديدة إنها لا يمكن أن توصف بأقل من نكبة حلت بالبشرية.

 نشأت بين الرجلين عداوة والتي حسمت الموضوع أكثر من الخصومات النتائج الميدانية لهذه الطريقة، ومن ثمراتهم تعرفونهم.

 ثبت قانون الهجرة للأنبياء، وجاء في أمثال العرب تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وروح الحسد تدفع في كثير من الأحيان أعظم الأفكار والإنجازات إلى الهجرة من مكان انبثاقها ليتقبلها قوم آخرون.

 إن ما فعله (كتشنر) كان أكثر من تطبيق سيخ من الحديد في تثبيت عظم مكسور، فقد فتح الطريق إلى تثوير فرع جديد كامل في الجراحة (OSTEOSYNTHESI) ويثبت اليوم كسر الظنبوب بصفيحة، والداغصة بسلك، وعنق الفخذ بمسمار، ويطور اليوم نوع من الإسمنت والعظم الصناعي للاستعاضة عن الحديد القديم.

 ما زلت أذكر من طفولتي عندما تزحلقت جدتي على الثلج، فانكسر عنق الفخذ عندها وكان الناس يتعارفون عليها آنذاك بكسر (الزر) وكان يعني وقعة لا قيام بعدها. كان سقوط المسنين يعني السقوط في فراش الشيخوخة حتى الموت، ولكن إدخال التقنية التي افتتحها كتشنر عام 1940 أقام المسنين بعد كسور عنق الفخذ فهم يمشون، وإلى ممارسة نشاطاتهم وحياتهم اليومية يعودون. في ما يتعلق بجدي وجدتي رحمهما الله، كان حظهما أنهما لم يولدا في ألمانيا ولم يولدا بعد نصف قرن، فبقيا طريحي الفراش حتى الموت.

 أذكر هذه الواقعة حتى نعرف تطبيقات مثل الحمار الذي ذكرناه عند الفيلسوف راسل، فكثير من الأفكار يتم اغتيالها ومحاصرتها وإغلاق الطريق أمامها، ومنها فكرة المطبعة التي كان يمكن الإقلاع بها من خاتم اليد. بمعنى أن سطح الخاتم لو جعل صفحة لأمكن اختصار عمل النساخ؛ فبدل الانهماك لساعات في كتابة الصفحة الواحدة لتكرار العمل نفسه في رتابة قاتلة مع احتمال وقوع الأخطاء، وبشيء من الاعتناء بسطح الختم الأولي بإتقان الخط وتجنب الأخطاء، يمكن إنتاج كم لا يعرف النفاد من الكتب بجهد بسيط وبعمل أشد أناقة وأكثر جمالا وأعظم دقة، ولكن البشرية انتظرت جوتنبرغ خمسة آلاف سنة.

 إن كثيرا من الأفكار تضيع في لجة التاريخ بدون توظيفها، مع أنها أقرب إلينا من حبل الوريد، وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون.

 والسؤال لماذا تُحارب الأفكار الجديدة؟ ينبع هذا في الغالب من مصدرين الخوف من التغيير والخوف على المصالح؛ فعندما تقدم عالم في ألمانيا يثبت أن «البيرة» تسبب السرطان، أعلنت الشركات الحرب عليه، لأن هذا معناه إقفال عدد فلكي من مصانع «البيرة»، وعندما يثبت العلم بما لا يقبل الشك أن التدخين يسبب سرطان الرئة، وأن السجائر تسبب الموت المفاجئ باحتشاء القلب، فإن صفحات الدعاية للدخان وبعد معارك طاحنة سمحت بكتابة هذه الحقيقة العلمية بخط مسماري من حجم النانو، لا يمكن قراءته إلا تحت المجهر، وجرت العادة أن الناس لا تحمل مكبرات في جيبها، ولا تطيل التحديق بنقوش تزين الزاوية السفلية، ليتم اغتيال العقل والعلم معا في صفقة تجارية موفقة. في شهادة صاعقة أن المصالح أهم من صحة الإنسان، وهذا يثبت مثل حمار برتراند راسل مرة أخرى أن الناس يعملون ضد مصالحهم وهم لا يشعرون؛ فما زال الناس يدخنون وينتحرون وشركات السجائر تضخ بعلب الدخان في شرايين المعمورة تقتل بها أمما بأكملها.

 وعندما تقدم موسى إلى فرعون يريد تحرير بني إسرائيل، كان جواب فرعون الفوري فما بال القرون الأولى؟ أي لم كنت الأول الذي يتحدث بهذا؟ ولماذا لم يقل به كائن من قبل؟ هل غفل عن هذه الحقيقة كل من سبقك؟

 لعل أخطر مرضين ينخران في الضمير البشري لإنتاج ظاهرة العقل المعتقل، هما الآبائية ومرض الاستكبار. الآبائية بالخوف من الجديد الذي يدعو إلى التغيير، والاستكبار برفض الحق ولو جاءتهم كل آية في مرض مركب معقد من بنية الجهل، وأخطر مرض يجمد حركة المجتمع هي رفضه للأفكار الجديدة، لأنه يقتل بهذا روح الإبداع والمبادرة والتغيير. وقصة الجراح (كتشنر) ليست الوحيدة، فرائد جراحي الأوعية (ألكسيس كاريل) حيل بينه وبين أفكاره في تطوير خياطات جراحة الأوعية الدموية ونقل الأعضاء، مما حرضه على الهرب من فرنسا والالتحاق بمعهد روكفلر في أمريكا، لينال بعدها جائزة نوبل عام 1912 م ويسطر أروع أفكاره في كتابيه (الإنسان ذلك المجهول) و(تأملات في سلوك الإنسان). المصير نفسه عانى منه (مندلييف)، صاحب أكبر كشف كيمياوي للجدول الدوري للعناصر، فبقدر ما حورب داخل روسيا بقدر ما التمع نجمه خارجها فمزمار الحي لا يطرب.

 ينقل (جاك بيرج) في كتابه «عندما تغير العالم» أن «ماكس بلانك» الذي وضع حجر الأساس لـ(ميكانيكا الكم) عام 1900 م قال إن الأفكار الجديدة لا تقبل على ما يبدو حتى يموت معارضوها، وهذا الذي حدث معه شخصيا فلم يمنح جائزة نوبل على نظريته إلا متأخرا، عندما تحولت إلى ثابتة كونية مثل سرعة الضوء في نظرية النسبية.

 عندما تحدث القرآن عن ظاهرة (النسخ) لم يكن عبثا ومن فراغ، فكما نسخ التاريخ حكم ملك اليمين فأصبحت الآية بهذا ذات مضمون تاريخي، فلم تعد هناك أسواقا لبيع ملك اليمين اليوم، كذلك يحصل للمؤسسات فقبل البريد أرسل اليونان العداء الشهير (فيبديبس PHEIDIPPES) يركض بدون توقف مسافة 42 كيلومترا، ليسقط ميتا بعد إبلاغه خبر انتصار أثينا على الفرس في الماراثون، التي ألهمت فكرة ألعاب الأولمبياد العالمية، ولكن البريد تحول إلى مؤسسة عالمية لا تعرف الحدود، ليبدأ في التلاشي مع البريد الإلكتروني والفاكس، سنة لله في خلقه وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها.

 إن المجتمع لا يرحب بالشواذ من الناس، فيفعل بالأفراد ما تفعله الدجاج مع المجروح منها؛ فعندما تبصر دم المجروحة يهيجها منظر الدم الناقع، فتنقرها حتى الموت في مكان الجرح بدون رحمة في آلية غريبة، وعندما يشذ الفرد بأفكاره قد يكون مصيره مثل مصير الدجاجة المجروحة، وهذا المثل ينطبق على المجتمعات الإنسانية بقدر سيطرة الغريزة فيها، وتنجو منه بقدر تحرر طاقة الوعي عندها على نسبته ومقداره، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى