شوف تشوف

الرأي

مخاطر الاتكال على «عرّاب» غريب الأطوار

جلبير الأشقر
لولا المآسي المتعلقة بمجريات الحياة السياسية في منطقتنا، لاستمتعنا بالمشهد الفكاهي للغاية الذي يقدمه يوما بعد يوم الرجل الذي أصبح أكبر المهرجين الذين عرفهم التاريخ، ألا وهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فبعد أن وصل إلى سدة الرئاسة برفع شعار «إعادة أمريكا إلى عظمتها»، لم يفلح الرجل بفعل نرجسيته المرَضية سوى في جعل أمريكا موضع سخرية وتهكم لدى العالم بأسره. وقد تبين ذلك بأوضح صورة، عندما ألقى ترامب خطابا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل سنة تبجح فيه بأن إدارته أنجزت في أقل من سنتين «أكثر مما أنجزته أية إدارة أخرى تقريبا في تاريخ بلادنا». وقد أثار كلامه آنذاك قهقهة معممة في قاعة الأمم المتحدة، شكلت أفصح تعبير عن أن العظمة التي وعد بإعادة تحقيقها الدونالد (بأداة التعريف، كما يسميه لفرادته المهرجون الأمريكيون المحترفون) إنما هي عظمة في المسخرة، ليس إلا.
هذا ولا بد من أن نعترف بأننا، وبالرغم من المآسي التي ذكرناها، نعمنا بمشاهدة خيبة أمل بنيامين نتنياهو ومحمد بن سلمان عندما تخلى الدونالد عنهما، مغيرا لهجته إزاء إيران مثلما سبق له أن غير لهجته إزاء كوريا الشمالية. فكما انتقل من وعيد هذه الأخيرة بإفنائها إلى مهادنتها وابتلاع كافة التحديات الصادرة عنها، بل إعلانه الوقوع في «غرام» زعيمها القراقوشي هو الآخر، انتقل الدونالد من لغة التهديد والوعيد إزاء إيران إلى التودد لحكامها وابتلاع التحديات الصادرة عنهم، وأهمها على الإطلاق الهجوم بالطائرات المسيرة الذي طال المنشآت النفطية في المملكة السعودية قبل أقل من شهر. والحقيقة أن ذلك الهجوم كان «ضربة مُعلم» إذ أصاب الوتر الحساس في السياسة الغربية، ألا وهو النفط، مبينا قدرة طهران على إحداث أزمة اقتصادية عالمية في حال تعرضت لعدوان أمريكي، فضلا عن إنزال أضرار جسيمة في مملكة آل سعود بما أحدث هلعا في نفوسهم.
ولم ينطل على أحد أن عدم قيام واشنطن بالرد عينيا على تحدي طهران، ناهيكم عن الشلل الفزِع الذي أصاب السعوديين، إنما هو إثبات للقوة الكامنة في القدرة على ضبط النفس، كما ادعت واشنطن. بل أدرك العالم أجمع أن موقف الحليفين لم ينم سوى عن الجبن، سيما أننا في صدد مواجهة بين دولتين، أمريكا والسعودية، تحتلان المرتبتين العالميتين الأولى والثالثة في النفقات العسكرية، وبين دولة إيرانية تحتل المرتبة الثامنة عشرة (حسب بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام). وطبعا لا مفاجأة على الإطلاق في العجز السعودي: فحيث تجاسر محمد بن سلمان على التدخل العسكري في اليمن المجاور المسكين، وهو أحد أفقر بلدان العالم، دون ضوء أخضر من العرّاب الأمريكي الذي كان يرأسه آنذاك باراك أوباما، لا هو ولا الدولة الصهيونية، حليفته الأخرى، يستطيعان المغامرة بشن هجوم على إيران بدون موافقة واشنطن، بل وبدون مشاركتها.
وقد تخلى الدونالد عن حليفيه تماما مثلما قرر ليل الأحد، إثر مكالمة هاتفية مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، أن يتخلى عن «وحدات حماية الشعب» / «قوات سورية الديمقراطية» (قسد) في شمال شرق سورية. فأمر بسحب القوات الأمريكية المحدودة التي كانت منتشرة في تلك المنطقة، حيث كانت ترمز إلى تغطية واشنطن للمقاتلين الأكراد وحلفائهم من العرب وقوميات أخرى، الذين استندت إليهم في دحر تنظيم داعش. وقد وصفت قيادة قسد ذلك بأنه «طعنة في الظهر»، وهو وصف دقيق لما رأى فيه العالم أجمع دليلا آخر على أن الاتكال على واشنطن بات محفوفا بمخاطر جمة في ظل رئاسة غريبة الأطوار. أما الذي يستمتع بالكامل بهذا المشهد الفكاهي، فهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أثبت للعالم أجمع عكس ما أثبته ترامب، وهو لا ينفك يدعو شتى الأنظمة الديكتاتورية إلى الاتكال على مساندة موسكو لها من خلال التحالف معها وشراء أسلحة من صنعها. بل سمح بوتين لنفسه أن يعلق ساخرا على قصف المنشآت النفطية السعودية بإسداء النصح إلى حكام المملكة بشراء صواريخ «إس 400» الروسية المضادة للطيران لضمان حمايتهم.
والحال أن الانسحاب الأمريكي من الشمال الشرقي السوري، إنما يفسح مجالا واسعا أمام تعزيز بوتين لهيمنته الإقليمية. فقد نصب نفسه حَكَماً بين إيران وتركيا، تتودد له الدولتان معترفتين بحيازته على القوة الحاسمة في المعادلة الإقليمية، وسوف يتعزز ذلك مع انسحاب القوة الأخرى الوحيدة التي كانت تستطيع موازنة القوة الروسية. أما لو حقق أردوغان وعيده باجتياح الشمال الشرقي السوري مثلما اجتاح منطقة عفرين، فسوف يتعرض لمقاومة ضروس من قِبَل المقاتلين الأكراد الذين سوف يكون ترامب قد رمى بهم في أحضان بوتين. ومن المرجح أن يدفع هذا الأخير بقوات النظام السوري إلى دخول المنطقة ومساندة القوات الكردية في وجه القوات التركية، تمهيدا لتحكم النظام بالحركة الكردية السورية.
كما يرجح أن تدخل القوات الإيرانية وتوابعها المنطقة ذاتها في سعي وراء استكمال السيطرة على المحور الاستراتيجي المؤدي من إيران إلى الساحلين السوري واللبناني. فتتعزز بذلك «الوساطة» المكيافلية التي تقوم بها موسكو بين طهران وأنقرة، والغاية منها التوصل إلى إعادة بسط سيطرة النظام السوري على كافة الأراضي السورية (باستثناء الجولان المحتل، بالطبع) تحت وصاية موسكو، مع إخراج القوات الإيرانية والتركية وفسح المجال أمام إرجاع اللاجئين السورين إلى بلادهم طوعا أو قسرا. وسوف يقبل الحكم التركي بالانسحاب من الأراضي السورية لو ضمنت له موسكو سيطرة نظام آل الأسد على مناطق الانتشار الحالي للقوات الكردية وفتحت الأبواب أمام إرجاع اللاجئين السوريين بضمانة روسية، بما يحقق الهدفين اللذين باتا الآن في صدارة السياسة التركية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى