شوف تشوف

الرأي

مصير الكون

فالأجسام وجدت (من) شيء و(عن) شيء، أي سببها فاعل و(الزمن) متقدم عليهما. أما الله فهو (من) غير شيء ولم ينشأ (عن) شيء ولم يتقدمه (زمن). أما العالم فهو لم ينشأ (من) شيء ولم يتقدمه زمن ولكن نشأ (عن) شيء، أي عن الله وهنا نقطة الجدل. وموضع الجدل هو في العالم هل هو محدث، أم قديم؟ وهو حسب مذهب ابن رشد ليس محدثا حقيقيا وليس قديما حقيقيا. فالمحدث فاسد والقديم ليس له علة. والذي حل هذه المعضلة لم تكن الفلسفة، بل علم الكوسمولوجيا.. ولو بعث ابن رشد من مرقده لذهل من النتيجة أن العالم ليس قديما كما تصور، بل إن الكون له عمر حدده العلماء بدقة مذهلة. ففي عام 1913 تقدم (جورج لوميتر) البلجيكي بنظرية مزدوجة تفسر ولادة الكون وموته، بأن الكون بدأ من نقطة انفجرت مثل شظايا قنبلة في كل الاتجاهات. ومنه تشكل كوننا الذي نعيش فيه والذي يضم مائة مليار مجرة في كل مجرة مائة مليار نظام شمسي. أو كما يصفها (كارل ساجان)، الفلكي الأمريكي، في كتابه (الكون) لو تصورنا أن قبضة من رمال البحر فيها عشرة آلاف حبة، فإن الكون الذي نعيش فيه يضم رمال شواطئ العالم أجمعين. وهو رقم يخشع القلب عنده. أما نهاية الكون فقد تنبأ (لوميتر) بأن الكون سيموت على نحو هادئ وتدريجي كما تذوي الشمعة.
ولكن تصورات (لوميتر) قوبلت بالاستهجان مرتين: من وسط المتدينين ان يكون الرجل ضل السبيل، ومن جهة غير المتدينين، لأن تصورا من هذا النوع يوحي بعمل إلهي يقترب من نظرية الخلق التي تحدثت بها الكتب السماوية. وبسبب إشكالية العلم والكنيسة فقد فضل العلماء الفرار من قبضة الكنيسة، مع انطلاقة العلم إلى أي شاطئ خوفا من سقوط العقل في مصادرة الفكر الدوغمائي.
لم تكن أقوال (لوميتر) الوحيدة، فقد جاء (ألكسندر فريدمان)، عالم الرياضيات الروسي، بمفاجأة تقول إن الكون الذي نعيش فيه يمشي باتجاه التمدد، وكان هذا اشتقاقا من معادلات آنشتاين في النسبية. كما أن (آنشتاين) وقع في ورطة عندما أدخل إلى معادلاته (الثابت الكوني)، في محاولة منه لضبط انفلات الكون بعد أن قادته نتائج المعادلات إلى توسع الكون وأن الكون له بداية. وفي حياته اعتبر آنشتاين أن هذه أكبر غلطة ارتكبها، وبتعبيره (حمرنة)، ولكن لم تكن غلطة كاملة فقد جاءت معلومات جديدة قبل بضع سنوات تقول بأشياء غريبة عن بناء الكون إن هناك طاقة في الكون هي (ضد الجاذبية)، وهي أقوى من الجاذبية بمرتين. بحيث إن معادلات آنشتاين القديمة يمكن نفض التراب عنها لاستيعاب حقائق جديدة في تطور الكون. أما المفاجأة الكبرى فجاءت من عالم فلك أمريكي هو (إدوين هبل 1889 ـ 1953) الذي طور تقنية خاصة لدراسة النجوم بمرصد قوي، فاكتشف أن الكون يضم من المجرات أكثر مما نتصور. وأن كل المجرات تتباعد عن بعضها البعض مثل نقط موجودة على ظهر بالونة، لا تكف عن التوسع تنفخ فيها قوة خفية بدون ملل. وتوصل إلى توسع الكون هذا عن طريق تقنية (الزحزحة الحمراء) لطيف الضوء. فمن المعروف أن الضوء ليس أبيض كما نتصور، بل هو مزيج من ألوان سبعة بموجات مختلفة في طيف يتراوح بين الأحمر والأزرق. فهو يهجم علينا برأس أزرق إذا كان الضوء متوجها نحونا، وهو بذيل أحمر إذا هرب مبتعدا عنا. وبواسطة هذه التقنية أدرك أن كل المجرات من حولنا ترسل ضوءاً أحمر وأن الكون كله في حالة توسع مذهلة. وفي عام 1929 تم ضبط حركة التوسع بقانون أطلق عليه (قانون هبل) وبثباتة كونية لهذا التوسع هي معدل 50 ـ 100 كم في الثانية الواحدة لكل ثلاثة ملايين وربع مليون سنة ضوئية. وبوضع يدنا على معدل السرعة يمكن قلب الحساب ومعرفة بداية الكون في رحلته ومتى تمت؟ فكل عودة للخلف لكون يتوسع تعني أنه كان أصغر. واليوم يقررها العلماء بأن عمر الكون هو في حدود 15 مليار سنة. بدءا من انفجار كوني يفوق كل تصور من نقطة رياضية (متفردة) معها تنهار كل القوانين الفيزيائية فلم يكن هناك زمان ومكان ومادة. وفي أقل من سكستليون من الثانية تمدد الكون على شكل غير متناسق إلى السعة الحالية. وهذا الانفجار ترك اثره على صورة أشعة كونية يمكن التقاطها من كل مكان، وهو الشيء الذي أثبته كل من (آرنو نزياس) و(روبرت ويلسون) عام 1965 وكان ذلك بمحض الصدفة ونالا على ذلك جائزة نوبل. وهي اليوم المؤشر المادي على حدوث الانفجار العظيمBig Bang ، وعرف أنه يبلغ درجة حرارة 3.5 فوق الصفر المطلق.
والآن يأتي السؤال الحرج؟ إذا كان الكون قد بدأ رحلته قبل 15 مليار سنة فإلى أين يمضي هذا التوسع؟ هل هو بدون نهاية أم أنه سوف يتعرض للانكماش مرة ثانية؟ حاول الفيزيائي البريطاني (ستيفن هوكينج) الاجابة عن السؤال في كتابه (قصة قصيرة للزمن): ان هذا يعتمد على مقدار المادة في الكون، فإذا كانت أقل من المتوقع مضى الكون في رحلة التوسع الى اللانهاية، واذا كانت كمية المادة أكثر انكمش ورجع باتجاه عكسي الى نقطة الانكماش الاولى بانخماص عظيم مقابل الانفجار العظيم. وكانت التقديرات أن هذا سيحتاج إلى خمسين مليار سنة. لم يستطع (ستيفن هوكنج) تحديد سيناريو الكون في أي اتجاه سيمضي واختار جواب ملكة سبأ عن عرشها، قيل أهكذا عرشك قالت: «كأنه هو». قال هوكينج جائز أن يكون أحدهما.
ومع مطلع عام 2002 بدأت أبحاث الفلكيين تمشي باتجاه جديد، من خلال دراسة استعار السوبرنوفا والأشعة الأساسية الخلفية في الكون بإرسال بالونات في القطب الجنوبي للقياس. مما أوصل إلى اكتشاف شيء قلب التصورات، بأن الكون أخف بكثير مما كانوا يتصورون وأن الكون ماض في توسعه إلى اللانهاية، في الوقت الذي تذوي الشموس ويستمر بقاء الكون الميت يتوسع إلى اللانهاية. ولكن هذا سيحدث بعد 100 ألف مليار سنة، أي أننا نعيش الآن الساعة الأولى من سنة كاملة جديدة.
أما مصير الأرض فأصبح مختلفا في ضوء هذا الكشف، فلن تعيش مع الشمس خمسة مليارات سنة، بل ستنتهي بعد 500 مليون سنة، بسبب ارتفاع توهج الشمس واحد في المائة كل مائة مليون سنة، مما يجعل المياه تتبخر أكثر وينضب غاز الفحم وتموت النباتات، ومع موت النباتات نموت نحن بفقد الأكسجين الذي تضخه النباتات، ولكن الفلكي الكندي (أرنولد بوثرويد) يعطينا أملاً في استعمار المجرة، بوجود ما لا يقل عن خمسين مليون كوكب صالح للسكن والانتقال إليه. وفي الوقت الذي تتهاوى الأنظمة الشمسية ستطبق نفس النهاية على الذرات فتتحلل، وما يصمد في النهاية ستكون الثقوب السوداء لتعيش فترة خرافية هي عشرة مرفوعة لقوة مائة من السنين، ويتوقف الزمن عند سطح الثقب الأسود بسبب هول الجاذبية التي تمسك بكل شيء، بما فيها الضوء. وفي النهاية ينفجر الثقب الأسود بقوة مليار قنبلة ذرية. ولكن المفاجأة التي يطلع بها علينا ميكانيكا الكم أنه من غبار هذا الكون يشاد كون آخر، ومن رحم هذا الكون الميت يمكن أن تتشكل منطقة انفراغ كاذب تنفصل فيها فقاعة من حجم (ميكرو)، لتتحول في أجزاء من المليارات من الثانية إلى كون جديد. تنقلب فيها الطاقة إلى مادة والميكرو إلى ماكرو يخرج الحي من الميت. ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون.
انها قصة أعجب من الخيال ولكن هكذا يقول العلم في آخر تفصيلاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى