الرأي

مفاتيح السلطة

الكارثة التي حلت على رؤوس الناس في سوريا والعراق واليمن وليبيا لا تخرج عن لعبة السياسة؛ فالسلطة لها نفس مفاتيح لعبة الشطرنج لمن يدرك ذلك، ولكن الكثير أمي جاهل لا يتقن هذه اللعبة؛ فيلعب به من يعرف اللعبة، والكون مسخر فيه كل شيء، بما فيه الناس والدواب والأنعام، فمن لم يحسن لعبة التسخير تحول إلى جملة المسخرات. كان ذلك في الكتاب مسطورا.
كان (مكيافيلي) صاحب كتاب (الأمير) متفائلاً وسط الفوضى الطاحنة مع مطلع القرن السادس عشر، أن تكون الظروف مهيأة لولادة عبقرية إيطالية؛ فمع اشتداد الظلام يقترب الفجر، ومع اشتداد الأزمة يأتي الفرج. وعندما تنحبس الذبابة في زجاجة يزداد نشاطها، حتى تنطلق من العنق المفتوح أمامها وهي لا تبصره.
وعندما كان (مكيافيلي) يحدق في الظلمات المطوقة للوضع الإيطالي ـ كما هو في الشرق الأوسط المنكوب حاليا ـ أدرك بعمق أن هذا التردي يخلق الحاجة للتفكير في الإصلاح، وأنه من الضروري لإيطاليا أن يكون أهلها مستعبدين أكثر من اليهود، ومضطهدين أكثر من الفرس، وممزقين أكثر من اليونانيين، لا زعيم لهم ولا نظام، مغلوبين على أمرهم، ومسلوبة أموالهم وأذلاء، وأن تكون بلادهم قد احتملت من الدمار والخراب كل شكل ونوع؛ ليخلص إلى نتيجة ذات بال؛ فقد كان من الضروري لظهور قوة موسى (أن يكون الاسرائيليون عبيدا في مصر).
هل يذكر هذا بوضع العالم العربي، بحيث يدفعنا إلى تفاؤل مكيافيلي من القرن السادس عشر؟ إن القرن الثامن الميلادي كان لعنة على بريطانيا، عندما حل على رؤوسهم الفايكنج، ولكنه كان السبب في وحدة الجزيرة.
ولم تنبثق الحضارات إلا في جو التحدي، كما وضع المؤرخ البريطاني (توينبي) نظريته في قانون (التحدي والاستجابة).
وفي علم النفس يرى العالم (هادفيلد) أن (الإرادة) تتحفز مع وجود (المثل الأعلى)، كما تتحرض الخلايا العصبية بالضوء والصوت؛ فإذا كانت الرائحة تحرض حاسة الشم، والنور يحرض قشرة الدماغ الخلفية للإبصار، والحرارة لمحرضات الألم والحس فإن ما يحرض الأمم على اليقظة هو جرعة الألم والمعاناة.
ونزل القرآن على (مكث) لأنه كان يحدث نقلة نوعية في تربية جيل كامل، يقطع عملية تكرار إنتاج الثقافة الجاهلية.
وبالمناسبة فكتاب (الأمير) لمكيافيلي لم يطبع إلا بعد موته بخمس سنوات عام 1532م، كما هو في كتاب كوبرنيكوس حينما اكتحلت عيناه برؤية كتابه عن حركة الشمس والأرض قبل موته بساعات، وقد كان ذلك الكتاب الزلزال لناقوس الكنيسة، كذلك الحال في كتاب سبينوزا عن (اللاهوت والسياسة) فقد روج خصومه الدعاية ضده أنه كتاب يدعو إلى الإلحاد، فلم يطبع إلا بعد موت الرجل بزمن ليس بالقصير، بل إن كتاب الوصية للكاهن (جان مسلييه) لم يقرأ باللغة الفرنسية إلا بعد موت الكاهن بـ 180 سنة وترجم إلى لغة الضاد بعد أربعة قرون، لأن الرجل كفر بالناقوس والبابا والكرادلة وروما والإنجيل والمسيح. كذلك كان الحال مع جيوردانو برونو قبل أن يشوى حيا مثل أي فروج بلدي بيد الكرادلة ورجال الدين الأتقياء.
وعلى الرغم من مرور خمسة قرون على إصدار كتاب الأمير فلا يزال يعتبر من الكتب التأسيسية في علم السياسة لثلاثة أسباب: صراحته وبساطته وأنه خير مرشد لكل من يمسك رقاب العباد.
ويقول عنه الزعيم الفاشي (موسوليني) الذي حصل على درجة الدكتوراة من أطروحته حول الكتاب أنه: (ملازم لرجل الحكم).
ولكن لماذا كان الكتاب تحت وسادة الكثير من الحكام بحيث تحول إلى نبع تغذية لكل أفاك أثيم ممن خاض في أوحال السياسة؟
الجواب يأتي من قواعد اللعبة السياسية التي فهمها الرجل. إنه يشابه ابن خلدون في فهم طبيعة العمران والاجتماع البشري، ويزيد برسم خطوط خطيرة لمن يمارس لعبة السياسة والجريمة المنظمة في ظل القوانين المرعية.
إنه يريد فهم كيف (تجري) الأمور وليس كيف (يجب) أن تسير الأمور؟ ومن بضع فقرات نراه يدرك الطبيعة الإنسانية؛ فهو يرى أن (الشح هو إحدى الرذائل التي تمكن من الحكم)، وأنه من الأفضل (أن يخافك الناس على أن يحبوك)، وأن لا يعمد الأمير إلى ممتلكات الناس فيسلبها لأن (من الأسهل على المرء أن ينسى وفاة والده من أن ينسى إرثه وأملاكه)، وأن من الحكمة البالغة في ضبط الرعية والقطيع البشري واجب (اقتراف الإساءات مرة واحدة بصورة جماعية؛ فهذا يفقدها مزية انتشار التأثير وبالتالي لا تترك أثرا سيئاً)، وهو ما برع فيه أيضا بشار البراميلي حين قتل من الناس مائة ومائتين في اليوم الواحد حتى أوصله إلى 470 ألف ضحية، وليس كما فعل شاه إيران سيء الذكر حين قتل في يوم 8 أوجست من عام 1978م بضربة واحدة بالحوامات (الهليوكوبتر) 4500 إنسان منهم 600 امرأة وأضعافهم من مقطوعي السيقان ومبقوري البطون والفوالج والمشوهين.
بشار الكيماوي لم يرفع وتيرة القتل إلى الدرجة الألفية، وهي نصيحة إيرانية قديمة من كهنة قم وأصفهان، فرفع كمية القتل إلى أكثر من الشاه ولم يلحق بمصير الشاه، نقول لما بعد.
قال الإيطالي مكيافيللي وهو يعلم الحكام الجريمة الذكية في أساليب تطويع إرادة القطيع البشري؛ أن (المنافع يجب أن تمنح قطرة قطرة حتى يشعر الشعب بمذاقها ويلتذ بها) مقابل صب العذاب عليهم صبا، كما عقد الرجل فصلا عن (أولئك الذين يصلون إلى الإمارة عن طريق النذالة)، كما حصل مع (أغاتو كليس)، الذي ارتقى عرش صقلية حين (استدعى ذات صباح أهل سراقوسة ومجلس شيوخها للتشاور معهم في قضايا بالغة الأهمية بالنسبة للجمهورية، وعند إعطائه الإشارة المقررة؛ قام جنوده بذبح جميع الشيوخ وأثرياء المدينة، وبعد أن تحقق من قتلهم تمكن من احتلال المدينة وحكمها دون أن يخشى المنازعات الداخلية)، وهو قانون استتباب الأمن في برنامج الدول القمعية، عندما تموت الأمة ويتحول المجتمع الى متحف حي محنط يتقن الصمت إلى يوم يبعثون، كما أن الحكام (تمكنوا بالمكر والدهاء من الضحك على عقول الناس وإرباكهم وتغلبوا على أقرانهم من الذين جعلوا الإخلاص والوفاء رائدهم)، وأن ثمة طريقين للقتال (القانون والقوة) ومن الضروري للأمير أن يعرف استخدام الطريقتين معا وهو ما نصح به الأقدمون مشيرين إلى (شيرون القنطور الخرافي) الذي كان نصفه إنسان ونصفه حيوان. وعلى الحاكم أن يقلد الثعلب والأسد معاً: (بأن يكون ثعلبا ليميز الأفخاخ وأسدا ترهبه الذئاب)؛ ولأن الناس سيئون ولن يحافظوا على عهودهم فإنك (لست ملزما بالمحافظة على عهودك لهم والبابا ألكسندر السادس لم يقم بأي عمل سوى خداع الآخرين).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى