شوف تشوف

ثقافة وفن

ملاحظات على آراء الكتاب في بديع الزمان الهمذاني

لا تعجبني تلك الجيوش من النعوت الجرارة التي كان يحشدها الثعالبي حين يترجم لأدباء اليتيمة وشعرائها. فكأنه كان يفتش عن ألفاظ وتعابير لينظمها صفوفًا عسكرية تعرض في ميادين الأذهان، وتؤدي التحية لكل ذي فضل. وهاك نموذجًا مما قاله في المترجم له: «هو بديع الزمان. ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر، ومن لم يدرك قرينه في طرف النثر وملحه، وغرر النظم ونكته، ولم ير، ولم يرو أن أحدًا بلغ مبلغه من الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب».
ألا ترى معي أن صاحبنا الثعالبي يكيل المدح بالمدِّ، وأن مثل هذا الكلام أقرب إلى الهذر منه إلى الجد. عفوًا لقد جاءت السجعة، فكرهت أن أقول لها ما قاله جرير لصائدة القلوب…
أما الحاكم أبو سعيد عبد الرحمن بن دوست، جامع رسائل الهمذاني، فكان كلامه موزونًا تقبله النفس، قال في مقدمة الرسائل يصف البديع للذي سأله جمع آثاره:
وكان أبو الفضل طلق البديهة. سمح القريحة، شديد العارضة، زلال الكلام عذبه، فصيح اللسان عضبه، إن دعا الكتابة أجابته عفوًا، وأعطته قيادها صفوًا، أو القوافي أتته ملء الصدور على التوافي. ثم كانت له طرق في الفروع هو افترعها. وسنن في المعاني هو اخترعها…».
هذا كلام رجل يفصل الثوب على القد فيقف عنده القارئ متأملا. أما القول: «بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد»، فعبارات تحتوي على كل شيء، وتكاد تكون لا شيء.
وصفه ابن دوست بقوله: «كان أبو الفضل وضيَّ الطلعة، وضي العشرة، فنان المشاهدة، سحار المفاتحة، غاية في الظرف، آية في اللطف، معشوق الشيمة مرزوقًا فضل القيمة».
أما صاحب اليتيمة فيقول في هذا: «وكان مع هذا كله مقبول الصورة، خفيف الروح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس، كريم العهد، خالص الود، حلو الصداقة مر العداوة».
وأما البديع نفسه فيلقي بعض الضوء على شكله وطباعه، حين يقول معتذرًا في إحدى رسائله إلى رئيس استقدمه إليه، إنه: «همذاني المولد، جبلي المنبت، ناري المزاج، ضعيف البنية، يابس العظام، حاد الطبع، حديث السن».
إلى أن يختم هذه السلسلة بقوله: «ألا يرحم لحمي الضعيف في هذا الهواء الكثيف؟ والأمراض لا تعبث من عبده بشحم ولحم، إنما تصل إلى العظم فتنقصه، وإلى الروح فتستخلصه».
وفي رسالة أخرى إلى رئيس بلخ وعميدها يصف أسلوب عيشه بعد الثلاثين فيقول: «ورقات تدرس، وشجرات تغرس، وشويهات تحرس، واللبن الرائب، والبر الخليط، وعريش كعريش موسى».
إنها لحياة فلاح لا حياة رجل يملك ألف رقبة بشر وألف رأس بقر … كما قال
لوالده. ولعل الأستاذ هنا، على عادة ذلك العصر، يخفي ما يملك إما خوفًا من الطمع فيه، وإما طمعًا بأعطية من هذا الرئيس العميد. وعلى كل حال أرى أن الخلتين: طالب علم وطالب مال، قد اجتمعتا فيه، وصاحباهما لا يشبعان.
كان شيخ همذان في صباه وشبابه أخا سفر جواب أرض. جاء حضرة الصاحب ابن اثني عشر ولزمها حتى اشتد ساعده، ولعله تركها مغاضبًا؛ لأنه في إحدى رسائله وقصائده يقف من الصاحب موقف النابغة من نعمائه. ثم ظل ينتجع الحضرات حتى بعدما أثرى واستقر في هراة. لقد طاب له المقام فيها، ولكن الحيري وابن البختري والجباة كانوا يقضون مضجعه مطالبين بدفع الضرائب، والشيخ تعود أن يقبض لا أن يدفع… ولهذا ترى نيران الشكوى تتصاعد من رسائله سوداء قاتمة كدخان الأتون في عدانه الأول… ومن شدة إلحاح هؤلاء عليه نراه يختم رسالة لهذا العميد: «وأسأل لله خاتمة خير وعاجل وفاة، إن بطن الأرض أوسع من ظهرها وأرفق بأهلها». كما يقول في رسالة أخرى: «والله لولا يد تحت الحجر، وكبد تحت الخنجر، وطفلة كفرخ يومين قد حببت إليَّ العيش، وسلت عن رأسي الطيش، لشمخت بأنفي في هذا المقام، ولكن صبرا جميلا والله المستعان».
ولقد وصف هو نفسه وصدق في الوصف حيث قال:
خُلقتُ كما ترى صعب الثقاف أرد يد المعاند في الخلاف
ولي جسد كواحدة المثانـــــــي له كبد كثالثة الأثــــــــافي
هلم إلى نحيف الجسم مــــــني لتنظر كيف آثار النـــحاف.
كان العرب يقولون غليظ الكبد. أما صاحبنا فصوَّر تلك الغلاظة أصدق تصوير.
إنه سبَّاب شتَّام، همَّاز غمَّاز تخشى بوادره، وحسبك منه ما رواه عن نفسه فقال:
«قدمت على الصاحب ولي اثنتا عشرة سنة. فبينا أنا عنده في دار الكتب إذ دخل أبو الحسن الحميري الشاعر، وكان شيخًا مبجلا فقالوا له: إن هذا الصبي لشاعر، يعنوني بذلك». أما الشيخ فنظم له بيتين مهذبين ليختبر ما عنده، فأجابه البديع جوابًا بذيئًا لا يصدر إلا عن الرعاع. ومن يطلع على نثره وشعره الصاخبين يرى أن شيخنا، إذا استولى على أمد الغضب، يستعمل الخاء والراء وكأنه ينثر المسك والند والعنبر…
غضوب حتى الثورة المجنونة. وكما أن الفرن والتنور لا يخرجان الخبز رافخًا إلا إذا حميا، كذلك كان بديع الزمان.
قال الحجاج في جرير: «إنه لجرو هراش». ولعل هذه تصدق على شيخ همذان.
فهو أناني لا يرى فوق نفسه من مزيد، والويل لمن يفضل الخوارزمي عليه، فما عنده له غير النار والكبريت. وحسبك أن تقرأ قوله في الرسائل والمقامات:
«من لقينا بأنف طويل قابلناه بخرطوم فيل». لتدرك مبلغ شراسته، وهذا شأن كل من يضخم أمره بعد عسر، ويستغني بعد قلة. إن هذه الخصال الطاغية، والاعتداد بالنفس الذي يجر إلى الحط من قدر الآخرين كانت تقلقل دائمًا مركز الشيخ، فينقل من حضرة إلى حضرة تاركًا في كل وادٍ أثرًا من ثعلبة… قال في رسالته لأبي نصر المرزيان يوضح له لماذا خرج من جرجان ووقع في خراسان: «أما السبب فهو أن أناسًا غيَّروا السلطان ولا أعلم كيف احتالوا، وما الذي قالوا… وأشار عليَّ إخواني بمفارقة مكاني، وبقيت لا أعلم كيف احتالوا، وما الذي قالوا… وأشار علي إخواني بمفارقة مكاني، وبقيت لا أعلم أيمنة أضرب أم شآمة، ونجدا أقصد أم تهامة. ونظرت فإذا أنا بين جودين: إما أن أجود ببأسي وإما أن أجود برأسي،
وبين ركوبين؛ إما المفازة، وإما الجنازة. وبين طريقين: إما الغربة، وإما التربة. وبين راحلتين: إما ظهور الجمال أو أعناق الرجال».
لم يكن الدهاء ينقص شيخنا الهمذاني، فهو واسع الحيلة، طبٌّ كعنترة يأخذ
الأمراء والوزراء. يصيب مقاتلهم – ولو مؤقتًا- يصيبهم بسجعه، وينصب لهم شراك الإطناب، وهم أبله من الحمام فيسقطون فيها.
أرانب غير أنهم ملوك مفتحة عيونهم نيام
وهكذا لم يبق ملك منهم إلا قرَّص أبو الفضل عجين «حضرته» وجدح منه سويقه… ولا أستبعد أن يكون مات مسمومًا؛ لأنه لم يسلم من لسانه أحد.
فالأنانية هي القطب الذي دارت عليه رحى حياته، أقلقه حب الظهور وأزعجه، فلا يكاد يسمع أن أحدًا قدم عليه كاتبًا حتى يهب لمقاضاته كأن له عنده دينًا، فتراه في كل مقام يمجن ويمزح ويتهكم، بل يكشف العورات ليرينا أنه قادر على القول في كل غرض، فهو من هذه الناحية أسلط لسان وأقذع هجاء، بل هو أحسد من مشى عليها. وحسبك منه أنه أراد أن يضع نفسه فوق الجاحظ كما سترى، فهو لو يستطيع أن يمحو معالم العبقرية من الدنيا حتى لا يبقى إلا هو لفعل. وقد أحسن ابن شهيد حين سمى في «التوابع والزوابع» شيطان البيع «زبدة الحقب». فشيخنا، غفر الله ذنوبه، كان كبطل مقاماته يدور مع الزمان كيفما دار، فكل من يتغلب وجبت عليه مدحته، يهمه أن يفوز ولو بشيء من الأسلاب، ولتكون في ما بعد كلمته مسموعة عند أولي الأمر، فيوصيهم بهذا، ويسألهم قضاء حاجة ذاك، لينعم بجاه ونفوذ بين الجماعة الذين حل عندهم.
كان يتشبع ويتسنن مطابقًا مقتضى الحال، ولا لوم عليه ولا حرج، ولعل الأبيات من شعره تصور لنا ما انطوى عليه:
ويك هذا الزمــــــــــــــان زور فلا يغرنك الـــــــــــــغرور
زوق، ومخرق، وكل، وأطرق واسرق، وطلبق، لمن تزور
لا تلتزم حـــــــــــــــالة ولــــكن در بالليالي كمـــــــــــا تدور
ولا بدع أن أتى هذا ممن لا يظن بالناس إلا شرا، فيقول لنا في ديوانه:
كذاك الناس خداع إلى جانب خــــداع
يعيثون مع الذئـب ويبكون مع الراعي
وكأن الشيخ، غفر الله له، قد علم أنه فظ غليظ القلب والكبد، وكان يتوقع من الأيام أن تكسر شرته وتعدل أخلاطه، ولكنه يئس أخيرًا من كل خير طلبه عند الليالي، فصاح هذه الصيحة المؤلمة:
خليلي واها لليالي وصرفها لقد ثقفت إلا كعوب خلائقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى