الرئيسية

نجاة معلا امجيد «بيتي لكل أطفال الشارع»

يونس وانعيمي
نظرا للأهمية البالغة لتخصيص حيز يقربنا من رجال ونساء ساهموا في «صناعة» الوعي بتاريخنا ونسج ما يميزنا حضارة وثقافة ومجتمعا عن الآخرين. لكن الشيء المبدع والصعب في نفس الآن، يتمثل في كيفية اختيار وتحديد أسماء بعينها، نظن أنه بالتطرق «لمساهماتها» سنقرب القارئ من «الذات المغربية» ونقربهم من سماتها وملامحها الفسيفسائية التي ساهم في تشكيلها والوعي بها (ربما) فلاسفة ومؤرخون وفنانون مغاربة.

جسم نحيف ونشيط جدا، تعيش داخله إنسانة قوية بروح قتالية وعزم كبير. هذه هي الأستاذة والخبيرة الدولية نجاة معلا امجيد. أو «ختي نجاة» كما تحب من مقربيها أن ينادوها بتلك الطريقة البيضاوية الشعبية البسيطة (السهلة الممتنعة). وذلك لأن لا صالونات الندوات الدولية ولا اللقاءات المخملية بالأمم المتحدة، تمكنت من أن تنسي السيدة نجاة سحنتها وقالبها «الكازاوي» الشعبي، وأن تبعدها عن ما هي بصدد تحقيقه والحلم به بعيدا عن الصخب.
تتواصل الأستاذة نجاة امجيد مع وسائل الإعلام السمعي البصري، وطنيا ودوليا، بقوة لغوية كبيرة وبثقل في الإقناع وباسترسال ممنهج في الكلام. فبمجرد أن تعطيها الكلمة، تنتهي الأسئلة لأنها تجيب عن كل شيء ولا تترك أي تفاصيل تخص عملها واهتمامها العلمي والجمعوي.

طبيبة أطفال الشوارع
كانت أول طبيبة أطفال تترك العيادة وتتجه بشكل فوري وبدون رجعة إلى الشارع. توقفت عن فحص الأطفال المرتفقين بعيادتها لأنها رأت أن هناك أطفالا لا ينتبه إليهم أحد بالرغم من فظاعة وجسارة أوضاعهم.. إنهم أطفال الشوارع.
أول كلمة تستفز نجاة هي بالضبط كلمة «طفل شارع»، ليس فقط بسبب وضعه الاجتماعي المستفز، لكن، أيضا، بسبب الكلمة نفسها التي تحمل في طياتها توصيفا اجتماعيا قدحيا يوجه لهذه الفئة عنفا مزدوجا: عنف الحياة وعنف الوصم والرمز.
كثير من الأطفال شاءت الأقدار أن تحرمهم حياة التفكك والعنف دفء أحضان أمهاتهم وأسرهم فارتموا في أحضان الشارع لتتقاذفهم أمواجه العاتية، وتنهش الوحوش براءتهم.. يفترشون الأرض ويلتحفون طبقات السماء ولا يجدون ضالتهم سوى في صناديق القمامة.
بمدينة الدر البيضاء، المدينة- الدولة، ليس في مفهومها الفلسفي لكن الوجودي الذي يعكس كل المتناقضات في صيغتها المغربية، بزيادة صفة قالها توفيق الحكيم «المدينة العظيمة التي أنجبت الجريمة العظيمة». في هذه المدينة اختارت نجاة امجيد المجازفة وركوب «سطافيط» والجولان في الليالي المظلمة الباردة بحثا عن الأطفال لإيوائهم وإنقاذهم.
أخذت نجاة امجيد مبادرة تأسيس جمعية «بيتي» لرعاية الأطفال في وضعية صعبة، والتي تأسست سنة 1997، تعمل على تنفيذ برنامج خاص باستقبال الأطفال في «وضعية الشارع»، كما يفضل أن يسميهم عبد الرحمان بونعيم، وهو واحد من المربين العاملين في صفوف الجمعية.
المركز التابع للجمعية، والموجود بحي سيدي البرنوصي، يمثل واحدا من أربعة مراكز تابعة للجمعية، إذ يوجد اثنان منها بالدار البيضاء، وثالث بالقنيطرة والرابع بالصويرة، زيادة على ضيعة تربوية توجد بضواحي سيدي علال التازي.
مركز سيدي البرنوصي يؤوي حاليا قرابة خمسين طفلا، يوفر لهم المأكل والمشرب والمبيت، علاوة على التمدرس. المستفيدون من هذه الخدمات أطفال وجدوا أنفسهم يدفعون ثمن مشاكل عائلية وحياة مضطربة يعيشها الآباء فيتحمل الأبناء تبعاتها.

تراجيديا خاصة
حياة نجاة امجيد الخاصة تطبعها تراجيديا خاصة، فهي تستمد اسمها من أسرة الفاعل الرياضي والجمعوي الراحل محمد امجيد، وتحديدا من زوجها الراحل كريم امجيد، الذي اقترنت به لأقل من عقد من الزمن ورزقت منه بابنتين هما «هند» و«صفية»، قبل أن يصاب الزوج باضطراب نفسي انتهى باتخاذ قرار أنهى به حياته على نحو غريب.
تقول الروايات التي دونتها محاضر الشرطة، إن الهالك وجد منتحرا في غرفة نومه، وإن أسباب الانتحار ترجع لخلافات أسرية كان من الممكن تجاوزها بقليل من الحكمة والتريث. لكن الخلاف مع عائلة امجيد لم ينته بنهاية حياة زوج نجاة والانفصال النهائي بين الزوجين، بل امتد لسنوات، خاصة بعد أن ظلت رئيسة جمعية «بيتي» ترث الاسم عن العائلة المكلومة. عاشت نجاة أرملة منذ منتصف التسعينات، دون أن تتمرد على صفة «أرملة» وفاء لروح الفقيد وبناء على رغبة هند وصفية.
كان كريم يشتغل مديرا لأحد أكبر الفضاءات التجارية للدار البيضاء، ويعمل على إسعاد أسرته الصغيرة، وملء الفراغ الذي كانت تتركه نجاة المنشغلة بعملها طبيبة أطفال في العيادة من جهة، وجمعوية مهتمة بقضايا أطفال في وضعية الشارع، وهو ما جعل الخلافات تطفو على السطح وتتحول إلى سجال يومي ساهم في وصول العلاقة الزوجية إلى الباب المسدود. لازال لغز وفاة كريم زوج نجاة محيرا، خاصة بعد أن عثر عليه ميتا في بيته، ما أشعل فتيل الغضب في الوسط الطبي، سيما أن الراحل هو ابن الرئيس السابق للجامعة الملكية المغربية للتنس، وأحد الفعاليات الجمعوية التي غادرت بدورها إلى دار البقاء. لذا ظل النزاع قائما بين امجيد الأب ونجاة، بل إن الوفاة المثيرة ساهمت في انقطاع حبل الود بين الطرفين، رغم وجود نقط التقاء تكمن في ابنتي الراحل اللتين كانتا تحت عهدة نجاة، قبل أن تختارا طريق العلم في سكة التواصل.
وعلى الرغم من الخلاف الذي عمر طويلا، فإن وفاة الفاعل الجمعوي محمد امجيد أعادت الدفء إلى العلاقة بين نجاة وأصهارها بعد طول جفاء، حيث قدمت التعازي وتلقتها في صهرها الذي عاشت معه محنة عصيبة منذ رحيل ابنه.
بوفاء لزوجها ولطفلتيها فإن نجاة بقيت تفضل الاسم الحركي الذي ارتبط بها منذ أن دخلت عالم الطفولة المشردة، وبعد أن بدأت مسارها في مؤسسة «ساعة الفرح» برفقة عدد من سيدات المجتمع المخملي، لتقرر الانفصال عنهن وتأسيس جمعية «بيتي» بحي البرنوصي، وتصبح رئيسة لها منذ التأسيس سنة 1996.
بعد تخرجها من كلية الطب في بوردو، تخصص «طب أطفال»، فتحت نجاة عيادة خصوصية واشتغلت بها فترة قصيرة، وراكمت تجربة طويلة في ميدان الطفولة المهمشة بالخصوص، لكنها سرعان ما صرفت النظر عن المهنة الحرة التي كانت تمارسها لتقرر الانخراط كليا في العمل التطوعي، إذ إن زياراتها الأولى لمؤسسة «ساعة الفرح» دفعتها للبحث عن موقع قدم في المجتمع المدني، ما قلص من تفرغها المهني وجعل وقتها موزعا في مرحلة أولى بين مهنة التطبيب وأطفال الشوارع، قبل أن تعلن انخراطها التام في العمل الاجتماعي وتصبح رئيسة لجمعية «بيتي»، وتوسع اهتماماتها لتختص في مجال «البيدوفيليا».
تعيش نجاة حياتها الشخصية كأرملة بدون مركب نقص، وتعمل على الاهتمام أكثر بقضايا الطفولة في وضعية صعبة، وحين تعود إلى بيتها بشارع مولاي يوسف، تعيش حياة الزهد وتنخرط في البحث عن حلول للآخرين، دون أن تعير اهتماما لحياتها الخاصة.

الخطة الوطنية للطفولة
ربما يبقى هذا الجانب الشخصي في حياة نجاة امجيد، أقل أهمية (بالرغم من بنيويته) مقارنة مع الخدمات الجليلة التي اقترنت بها في مجال حماية الأطفال في وضعية صعبة. نجاة معلا امجيد كانت ضمن ثلة الخبراء القليلين الذين صاغوا الخطة الوطنية للطفولة سنة 2006 والتي راسل من أجلها الملك محمد السادس كل الفاعلين المؤسساتيين للعمل بمقتضياتها ومضامينها بشكل مستعجل.
فضلا عن ذلك، ساهمت نجاة امجيد في صياغة الإطارات المرجعية للعديد من البحوث الميدانية الخاصة بالطفولة، منها تلك المتعلقة بالتسول بالأطفال أو البحوث المرتبطة بالعنف ضد الأطفال في المرافق العمومية، وبحوث دولية همت الاتجار بالقاصرين، كما كانت من بين الخبراء الذين صاغوا مسودات تعاون ما بين حكومات (خصوصا بين المغرب وإسبانيا- ليبيا وإيطاليا…) بخصوص وضع برامج استقبال وتأهيل وإدماج القاصرين المهاجرين السريين غير المرافقين.
وعملت نجاة امجيد، كذلك، في إنجاز أغلب تقارير المملكة المغربية الموجهة للمنتظم الدولي، لتخبر أولا بأوضاع الطفولة المغربية، لكن لتنبه ثانيا إلى ضرورة مواكبة ودعم التجربة المغربية تقنيا وماليا. وهي من كانت وراء العديد من التمويلات الدولية التي ساهمت كثيرا بتقليص ظاهرة أطفال الشوارع وساهمت في تشييد العديد من المرافق بالمغرب المهتمة بالأطفال في وضعية صعبة.
هذا التفاني الكبير والإشعاع في الأوساط الحقوقية الدولية دفع العديد من المنظمات الدولية للاستفادة من خبرات امجيد بوصفها مقررة خاصة وخبيرة لها منهاج متطور ودقيق في قراءة أوضاع الأطفال وتقديم حلول ومخططات عمل ناجعة بمؤشرات مضبوطة.

الأمين العام المساعد
سنة 2019، سيعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، عن تعيين المغربية نجاة معلا امجيد ممثلة خاصة له معنية بالعنف ضد الأطفال، بدرجة أمين عام مساعد.
المتحدث باسم الأمين العام أكد، في بيان تم نشره دوليا، أن السيدة معلا امجيد، وهي طبيبة أطفال، «كرست حياتها خلال العقود الثلاثة الماضية لتعزيز وحماية حقوق الطفل». كما شغلت منصب رئيسة قسم طب الأطفال ومديرة مستشفى الحي الحسني للأم والطفل بالدار البيضاء، وهي عضو في المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة لجمعية «بيتي».
وهو منصب لم يأت من فراغ، بل من تراكم كمي ونوعي أثرى حياة امجيد المهنية والحقوقية، حيث سبق أن عملت بين سنتي 2008 و2014 مقررة خاصة للأمم المتحدة حول ملف الاتجار بالأطفال واستغلالهم جنسيا. وهي، أيضا، خبيرة مستشارة في مشاريع واستراتيجيات وسياسات وطنية ودولية تتعلق بتعزيز وحماية حقوق الأطفال.
وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، إن السيدة نجاة معلا امجيد، التي خلفت الخبيرة البرتغالية مارتا سانتوس بايس، تحظى منذ البدء بامتنان الأمين العام لقيادتها الاحترافية للبرامج وتفانيها ونضالها الحقوقي المستميت، وهي شروط نوعية ستساعدها في تولي منصب أول ممثلة خاصة معنية بالعنف ضد الأطفال.
يحكى في كواليس الإعلام أن القناة التلفزية الثانية «2M» كانت قد اعتزمت إنتاج وبث ربورتاج تلفزي حول وضعية أطفال الشوارع بالدارالبيضاء، لكن، بعد ذلك، ترددت القناة في إنتاج هذا الربورتاج وأجلت المشروع، ولما بلغ الأمر لنجاة امجيد، سلحت طاقمها بكاميرات بسيطة وركبت «سطافيط» رفقة مجموعة من شباب ومؤطري جمعية «بيتي»، وخرجت تتجول ليلا في أخطر المناطق والأحياء البيضاوية، لتلتقي أولا بالمتشردين من الأطفال ثم لتأخذ إجراءات الإيواء والحماية من بعد. وبعد إنجازها لفيلم بسيط مصور بكاميرا بسيطة أخذت لإدارة الإنتاج بالقناة قصد بثه و»هددت» بإعطائه لقنوات دولية إن هم رفضوا إبلاغ الرأي العام بما يعيشه أطفال مغاربة متشردون من ظروف مزرية. كانت مناورة حقوقية نضالية من نجاة امجيد وتمكنت من مساعدة القناة على إنتاج الربورتاج وكسرت بذلك هذا الطابو العنيد الذي حجب عنا رؤية واقع آخر يرفض المغرب والمغاربة أن يروه.

في سطور
ولدت نجاة امجيد سنة 1959 بالدار البيضاء.
انتخبت يوم 27 مارس 2008 في جنيف من طرف مجلس حقوق الإنسان في منصب المقرر الخاص المعني ببيع الأطفال واستغلالهم في البغاء والمواد الخليعة.
بعد متابعة دراساتها الجامعية بكلية الطب بالرباط وبوردو وتولوز بفرنسا، مارست مهنة الطب ببوردو والدار البيضاء، والتحقت كطبيبة أطفال وطبيبة مديرة لمصحة الأم-الطفل التابعة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
أسست وترأست جمعية “بيتي” العاملة في مجال إعادة الإدماج الأسري والمدرسي والسوسيو مهني للأطفال في وضعية صعبة، وتعد عضوة نشيطة في مجموعة من المنظمات غير الحكومية التي تهتم بصحة الأطفال وحمايتهم.
أنجزت دراسات لمؤتمرات دولية ومنظمات مكلفة بقضايا الطفل، ونالت العديد من الجوائز التقديرية من بينها جائزة ناتالي (المركز الدولي للطفولة والأسرة، باريس 1997)، الجائزة الأوروبية لطب الأطفال الاجتماعي (1997) وجائزة الجمهورية الفرنسية لحقوق الإنسان (2000)، كما كتبت العديد من المقالات حول مواضيع تخص استغلال الأطفال وأنشطة المجتمع المدني الموجهة لقضايا الأطفال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى