الرئيسية

هذه هي الاعتبارات الأربعة التي جعلت بحث الملك جديرا بالقراءة

عزيز الحور
وصلنا إلى خاتمة كتاب «الاتحاد العربي الإفريقي واستراتيجية التعامل الدولي للمملكة المغربية»، والذي كان بحثا لنيل الإجازة تقدم به ولي العهد حينها، سيدي محمد، رفقة صديق دراسته، رشدي الشرايبي، سنة 1985، في ختام دراستهما الجامعية بمدرجات كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط.
الخاتمة وردت على صيغة الاقتضاب، جامعة لأهم أفكار البحث، وفيها يقول الملك: «في ضوء ما تقدم، يتبين أن الاتحاد العربي الإفريقي جاء تعبيرا عن رسوخ الإرادة الوحدوية لدى الشعبين الشقيقيين المغربي والليبي وطموحاتهما في الوحدة والتضامن وبناء المستقبل على أسس واقعية، ونقطة انطلاق في مسلسل بناء المغرب العربي، وتحقيق وحدة الأمة العربية. لذلك فإن أهم ميزة لهذا الاتحاد، بالنظر إلى طبيعته وأغراضه، هي تخطيه للخلافات والمشاكل المصطنعة، ليصبح أداة لتقوية التضامن والتعاون، وخلق فرص التنمية، وإزالة أسباب التوتر، بل إنه تجربة يراد بها تهيئة الظروف لبناء هياكل أوسع تخدم وحدة الشعوب العربية والإسلامية، وبناء علاقات خاصة مع الدول الإفريقية».
يتابع الملك مجملا أهم أهداف الاتحاد الناشئ بين المغرب وليبيا، موضوع بحث الملك الذي لم يمض على خلقه سوى عام واحد قبل تاريخ خروج البحث: «وعلى ذلك فالاتحاد العربي الإفريقي هو عمل استراتيجي، وطرح سياسي جديد، ليس فقط بالنسبة للمغرب وليبيا، ولكن بالنسبة لجميع الدول العربية والإفريقية، ولكل دول العالم الثالث. فهو يستهدف تنمية المصالح المشتركة، وإزالة القيود والحواجز لزيادة التفاعل بين الدولتين الشقيقتين، وإذابة الاختلافات بينهما، وبناء أسس التلاقي والتفاهم المشترك. إن الاتحاد العربي الإفريقي له أغراض متنوعة، فهو يرمي من جهة إلى توحيد المغرب العربي، والأمة العربية، ودرء الأخطار المحدقة بالأمة العربية والعالم الإسلامي خاصة بفلسطين والقدس الشريف. كما أنه من جهة أخرى يهدف إلى نهج سياسة مشتركة في مختلف الميادين، سواء كانت داخلية كقضايا التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي، أو خارجية مثل المحافظة على السلام وعدم الانحياز، وتدعيم التعاون الدولي وخاصة التعاون العربي الإفريقي. وجميع هذه الأهداف تؤكد قيام تضامن بين المملكة المغربية والجماهيرية العربية الليبية على الصعيد الاتحادي وفي مواجهة العالم الخارجي».
وفي سياق ملابسات تأسيس الاتحاد بين المغرب وليبيا وما أحدثه ذلك من مواقف مختلفة، يذكر الملك: «كما أن هذه الأهداف جاءت متطابقة مع أهداف التعامل الدولي للمملكة المغربية، سواء على الصعيد المحلي والإقليمي أو على الصعيد العالمي، وتنسج معا في نسق يتخطى التناقضات، ويعمق المصالح والسمات المشتركة. لكل ذلك، فبالرغم من استمرار المؤامرات ومحاولات نسف الاتحاد العربي الإفريقي التي يقوم بها خصوم هذه الخطوة الوحدوية الرائدة، فإنه يتعين على دولتي الاتحاد الصمود والاستمرار في هذا العمل الجاد والبناء لتوطيد أواصر الأخوة وعلاقات التعاون بين البلدين، وجعلها تعطي ثمارها على الواقع الملموس، وتأهيلها لكي تصمد في وجه مؤامرات أعداء الوحدة ودعاة الانفصال والتقسيم والتشتيت».
بهذه الكلمات ختم الملك وزميله الشرايبي بحثهما الذي أطره عبد الواحد الناصر، أستاذ العلاقات الدولية، مجال تخصص الملك الجامعي، بجامعة محمد الخامس أكدال بالرباط. هذا البحث الذي أسعفنا في الوقوف على عدة أمور مهمة، لعدة اعتبارات:
الاعتبار الأول: أنه أول محاولة كتابة قام بها الملك عندما كان وليا للعهد وعمره لم يتجاوز 21 سنة، وبالتالي كان مهما الوقوف على طريقة تفكير الملك محمد السادس وهو ما زال شابا يافعا في السنة الأخيرة من الدراسة الجامعية لنيل الإجازة في الحقوق. فإذا كان من المعلوم أن كثيرا من التوجهات الفكرية والقناعات المبدئية، فضلا عن طرائق التفكير وأنماط التحليل والتموقف، تنشأ في السنين الأولى من الشباب، فكيف سيكون الحال بالنسبة لشاب يهيأ منذ كان طفلا ليصير ملكا على دولة. وعلى الرغم من الطابع «الرسمي» الذي اكتسته بعض مواقف الملك وتعبيره عن أفكار بلغة حذرة للغاية، لدواعي الموضوعية البحثية من جهة ولحساسية وضع الباحث الذي لم يكن سوى ولي عهد مملكة متجذرة في التاريخ ومرتبطة بقضايا راهنة متعددة، وبالتالي فكلامه محسوب بالحرف والنقطة، فإن الملك فصل، بشكل مباشر أحيانا وبصفة ضمنية أحيانا أخرى، في أفكاره الخاصة وقناعاته الشخصية تجاه قضايا بينها قضية الصحراء المغربية والقضية الفلسطينية مثلا.
ومن المفيد أيضا، في هذا الإطار، إجراء مقارنة بين أفكار الملك حينها وأفكاره الآن حينما تغيرت زاوية النظر بفعل تغير الموقع ولاعتبار التقدم في العمر أيضا، وسيظهر، من خلال المقارنة، أنه لم يتغير شيء، فموقف سيدي محمد، ولي العهد، من القضية الفلسطينية وإسرائيل والبوليساريو مثلا، لا يختلف عن موقف محمد السادس، ملك المغرب، إلا بالقدر الذي استدعاه تغير طريقة التعبير. لكن المهم في المقارنة أيضا هو ما وقفنا عليه بخصوص منظور محمد السادس للقارة الإفريقية وقضاياها، فقد لامسنا اهتماما من الملك وهو شاب بإفريقيا، وهو الاهتمام الذي رافقه عندما صار ملكا، بل إن نظرته للبلدان الإفريقية باعتبارها شريكا اقتصاديا وخزانا تنمويا هاما وليست مجرد بؤر بؤس وتوتر، هي ذاتها الآن وهو ملك يقود دفة السياسة الخارجية نحو تعاون اقتصادي أكبر مع الدول الإفريقية.
الاعتبار الثاني: يتجلى في ما وقفنا عليه في تصدير الكتاب، الذي يحدد فيه الملك سياق تأسيس الاتحاد العربي الإفريقي من زاوية ولي العهد المطلع على الكواليس، إذ بسط كيفية نشوء فكرة الاتحاد، والتي كان وراءها الملك الراحل الحسن الثاني. وفي هذا الإطار لامسنا الحميمية التي تحدث بها محمد السادس عن والده في هذا التصدير، وهي من المرات القليلة التي تحدث فيها محمد السادس عن والده، وتابعنا كيف وصفه بالنبوغ وقال إنه «وكأنه ينظر بنور الله» في مسألة اقتراح الاتحاد مع ليبيا، لكن هذه الحميمية لم تكن مفرطة إلى الحد الذي يجرد الوالد من لقبه الذي قد يتجاوز صفة أبوته، وهو الملك، لذلك ظل محمد السادس يقرن ذكر والده بلقب جلالة الملك استحضارا لهذه المكانة التي تتجاوز علاقة القرابة إلى ما هو أوسع دينيا وسياسيا وأخلاقيا.
الاعتبار الثالث: رغم أن الاتحاد العربي الإفريقي لم يُفعل في مداه الأقصى الذي رسم له، لاعتبارات جيوسياسية مرتبطة بصرف التركيز، بعد توقيع معاهدة وجدة سنة 1984، على تقارب أعم أفضى إلى الإعلان عن نشأة اتحاد المغرب العربي بمراكش سنة 1989، إلا أن إنشاءه، كما نستوضح من المعطيات التي أوردها الملك في بحثه، كان خطوة سياسية بالغة الذكاء من الملك الراحل الحسن الثاني، فحتى وقت قريب جدا من تأسيس الاتحاد كان الزعيم الليبي معمر القذافي يحشد كل إمكانياته لقلب نظام الحكم الملكي في المغرب بعدما نجح في ذلك في ليبيا، كما ظل ينازع الحسن الثاني، لدواع سياسية ونفسية، الزعامة عربيا وإسلاميا وإفريقيا، وها هو يصافح من كان عدوه بالأمس إبان التوقيع على معاهدة وجدة التي كسب فيها الحسن الثاني ليبيا عوض أن تكون عدوة للمغرب ووحدته الترابية، ومهد لتقارب اقتصادي المستفيد الأكبر منه هو المغرب الذي ستجمعه علاقة ثنائية وطيدة بدولة طاقية.
الاعتبار الرابع: تمثل في تشخيص الملك في بحثه لأسس السياسة الخارجية المغربية حينها، والتي ظلت تنطلق من التوازن على مستوى العلاقات الدولية عبر دعم سياسة عدم الانحياز في سياق تجاذب المعسكرين الشرقي والغربي أثناء الحرب الباردة. ولعل هذا التوازن، الذي أشار إليه الملك في كتابه بتاريخ وأبعاده، هو المعمول به حتى الآن في السياسة المغربية الخارجية التي تتحرى وضع القوى الدولية على المسافة ذاتها تجنبا للانحشار في صراعات لا تجر مصلحة على البلد.
هذه الاعتبارات وغيرها جعلت كتاب الملك محمد السادس جديرا جدا بالمتابعة والاهتمام، وأظهرت انشغال الملك، منذ حداثة سنه، بالأفكار الوحدوية، سواء عربيا أو إسلاميا أو إفريقيا، لذلك لم يكن مفاجئا أن يختار تجربة وحدوية أخرى موضوعا لأطروحته لنيل الدكتوراه وهي الاتحاد الأوربي. ومن يدري ربما يتمكن هذا التوجه الوحدوي، مغاربيا وعربيا وإسلاميا وإفريقيا، من الخروج ذات يوم من دفات البحوث والأطروحات إلى حيز الوجود. حينها تمكن إعادة قراءة بحث الملك لنيل الإجازة بطريقة أخرى.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى