الرئيسية

هكذا تحول مستشفى الأمراض العقلية بطنجة إلى «معقل متوحش»

طنجة: محمد أبطاش
وسط واقع مزر وفاضح، يعيش أزيد من 60 نزيلا داخل مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعقلية بمدينة طنجة، في ظروف حاطة من الكرامة الإنسانية.
المستشفى الذي يتوجه إليه المرضى من منطقة يقطنها ما يقرب من 3 ملايين نسمة، لا تتجاوز طاقته الاستيعابية 75 سريرا. زيارة المؤسسة تكفي لاكتشاف أن كرامة هؤلاء الذين «رفع عنهم القلم»، وصلت إلى الحضيض، في وقت تتسع المعاناة لتطول الممرضين وعددا من الأطر الطبية الذين أضحوا يفكرون في مغادرة المستشفى بلا عودة، بسبب ظروف صادمة. وضمن هذا التحقيق، الذي يكشف ما يختفي بين أسوار مستشفى الرازي، معطيات تنشر لأول مرة موثقة بصور حصرية من داخل المؤسسة.
داخل مؤسسة تعتبر الأولى بالمناطق الشمالية، وتستقطب مرضى من حوالي ست مدن، كان على صحافي «الأخبار» أن يتقمص دور قريب لأحد المرضى من أجل الوصول إلى معطيات أكثر بعد تناسل شائعات حول الأوضاع المزرية بمؤسسة الرازي الصحية. ضمن هذا الموضوع نورد كيف أن المؤسسة، أضحت تنتج آلات بشرية فتاكة تزرع الرعب في صفوف أصولها، فضلا عن عدد من المواطنين بعدما تحول المستشفى إلى «معقل متوحش»..

سجن وتوحش
من المعطيات الصادمة التي حصلت عليها «الأخبار» مرفقة بصور كارثية، هي أن مستشفى الرازي أضحى يشبه «سجنا متوحشا»، بفعل غياب المراقبة وتهرب المصالح الوزارية من مسؤوليتها، علما أن تقارير سبق وأن وضعت أمامها تنبهها إلى ما يجري، وتدعوها إلى ضرورة التدخل حتى لا تتسرب هذه الفضائح إلى وسائل الإعلام. وتورد هذه المعطيات أن من ضمن المشاكل العويصة المرتبطة بالمستشفى، غياب كلي لشروط السلامة الجسدية في غرف العزل الانفرادي مع انعدام كيفية المراقبة بفعل غياب التيار الكهربائي، حيث إن النزلاء يقضون أيامهم وسط الظلام الدامس، كما أن الاكتظاظ الذي يحصل داخل المستشفى خصوصا في مصلحة الذكور، يدفع بالمرضى إلى المبيت على الأرض مباشرة وبدون غطاء، كما يظهر من خلال الصور المذكورة، وهو ما يجرد المريض من كرامته. بعض هذه الحقائق الصادمة وقف عندها تقرير خاص حيال هذا الملف، إذ إن حتى الأغذية التي تقدم للمرضى تتسبب لهم في الإسهال، مما يدفع إلى التساؤل حول طريقة التحضير والمعايير الصحية المتخذة، إضافة إلى أمور كثيرة تجعل من المؤسسة شبيهة بـ «معقل متوحش»، يستوجب الوقوف على ما يجري بداخلها.
إذا كان العلاج بهذه المؤسسة حق من حقوق هذه الفئة الذي يجب أن يستفيد منه المرضى، فإنه ينتفي هنا بالمرة، ليبقى الوضع مجرد «معقل» يقضون فيه أوقاتا في انتظار نهايتهم المحتومة، كما تكشف بعض المصادر المطلعة على خبايا الأمور.

عراة واستحمام
أضحت ظروف الاستشفاء داخل مصالح المؤسسة، غير مناسبة لاستقبال وتلقي المرضى للعلاج، بحسب تقارير سابقة نبهت إلى الوضع الكارثي، كما أن معظم المرضى يفقدهم الأمر الثقة في المؤسسات العمومية، مما يجعلهم عرضة للانتحارات، كآخر منقذ من هذا «المعقل المتوحش»، خصوصا النزلاء الذين يتم وضعهم داخل غرف العزل الانفرادي، كما توضح ذلك صور تنشرها الجريدة حول هذا الأمر، حيث تعتبر هذه الغرف من أكثر الأماكن التي تحط من كرامة النزلاء، وتجعلهم على حافة الانهيار النفسي، فمعظم هؤلاء يقضون حاجاتهم الطبيعية وسط الظلام الدامس، بحكم غياب التيار الكهربائي داخل هذه الغرف.
وحسب معطيات وردت في التقرير المشار إليه، فإن قضية الاستحمام تصنف ضمن الحقائق التي توصف بـ «الفاضحة»، على اعتبار أن غالبية النزلاء لم يستحموا لأزيد من ثلاثة أشهر، خصوصا الذين تم استقدامهم من ضريح «بويا عمر»، فضلا عن بقية النزلاء الذين يتجاوزون الـ 60 فردا والمكدسين داخل زنزانة واحدة، حيث تنتشر كافة الأمراض الجلدية في أوساطهم، بحكم تفشي القمل والبق، إلى جانب الروائح الكريهة الناتجة عن غياب مياه الاستحمام.
وتحمل، بعض المصادر المسؤولية في هذا الوضع للشركة المكلفة بالأشغال، على اعتبار أنها مباشرة بعد مغادرتها، تعطلت الرشاشات الخاصة باستحمام المرضى، رغم أن حوالي 5 لترات تضيع في كل 17 ثانية، وهو ما يضع المؤسسة أمام فوهة بركان أخرى تتعلق بغياب مراقبة الأشغال من قبل المصالح الوصية على القطاع محليا، إلى جانب هدر المال العام، الذي سبق أن كان ضمن توصيات تقارير المجلس الجهوي للحسابات.

البق والقمل
من الغرائب التي كشفت عنها مصادر طبية، فضلت عدم الكشف عن هويتها، أن الممرضين والأطر الطبية، يعيشون بدورهم أزمة خانقة، إلى حدود التفكير في مغادرة هذه المؤسسة بلا عودة، حيث أن من الظواهر التي يتم التستر عليها بشكل مهول، تفشي وجود الحشرات من قبيل القمل والبق بشكل مهول، بين أرجاء المصالح، مما يتسبب للنزلاء في أمراض جلدية مختلفة ومتنقلة، فضلا عن الممرضين الذين يحتكون مع هؤلاء النزلاء، حيث إن غالبيتهم يتحول إلى ناقل لهذه الحشرات نحو منازلهم، مما ينتج عنه معاناة نفسية أسرية حيال هذه الآفة.

انتحار ووفاة
اهتز المستشفى المذكور مدة شهور على وقع حوادث الانتحار المفاجئة، فضلا عن الوفيات التي يجري التستر عليها، تقول مصادر طبية، في الوقت الذي تتقاطع أسباب إقدام هؤلاء النزلاء على هذا الفعل. وقد سجل خلال الشهرين الماضيين فقط لجوء أحدهم إلى وضع حد لحياته، تزامنا وانشغال الجميع بوقت الغداء، بعد أن قام بشنق نفسه بواسطة حبل حتى الموت. وقد جرى اكتشاف الواقعة من قبل بقية النزلاء. ونظرا لغياب إحصاءات رسمية حول ذلك، فإن مصادر قدرت هذه الحالات في أقل من سنة بحوالي عشر حالات بعضها خرج إلى العلن، فيما تم التكتم على بقية الوفيات الناتجة عن الانتحارات التي تجهل أسبابها، على وجه الخصوص والتي أضحت مرشحة للارتفاع بسبب الظروف المزرية.

مشروع مجرم
ليس من الصدفة أن عددا من الجرائم التي هزت مدينة طنجة، ارتبطت بشكل مباشر بعدد من نزلاء هذه المؤسسة، فبالإضافة إلى التستر الكبير على عمليات العنف التي تقع في قلب «المعقل»، فإن نزلاء آخرين تلقوا «العلاج» في مرافقها، خرجوا إلى المدينة على شاكلة «مشروع مجرم»، وأضحوا آلة فتاكة لم ترحم حتى أقرب المقربين إليها، ونسوق لذلك نموذج شخصين أقدما على جريمتي قتل في حق الأصول الأول طعن والدته، فيما الثاني طعن والده فأرداه قتيلا في الحين.
وعلاقة بهذا الموضوع، تقول مصادر أمنية على اطلاع، إن غالبية المتخلفين عقليا، الذين يتم توقيهم من قبل المصالح الأمنية، وإيداعهم المستشفى المحلي، تحت إشراف النيابة العامة المختصة، يتم إطلاق سراحهم ساعات بعد ذلك، وعادة ما يجري حقنهم بمهدئات لا يزيد مفعولها عن بضع ساعات.

في دائرة المخدرات
يقع مستشفى الرازي ضمن مقاطعة بني مكادة بأرض الدولة، التي هي من أخطر الدوائر المعروفة بمدينة طنجة، باعتباره أكثر شيوعا حول انتشار المخدرات وتجارها ومدمنيها، لهذا فإن معاناة الجميع وعلى رأسهم النزلاء تتعدد في ظل غياب استراتيجية أمنية لحماية هذه المؤسسة الصحية، وهو ما يجعل أبناء هذا الحي يقومون بين الفينة والأخرى بالهجوم على المؤسسة لتصفية الحسابات فيما بينهم، ما يخلق حالة من الذعر حتى في أوساط النزلاء الذين «رفع عنهم القلم»، وفي هذا الصدد تكشف المعلومات المتوفرة عن أن الميزانيات الضخمة التي صرفت على المؤسسة تطرح حيالها علامات استفهام حول مصيرها الحقيقي، إذ إن أسوار المستشفى تسهل عملية هروب المرضى بشكل متكرر، كما تساهم في دخول غرباء إليها، مما يجعل المخدرات تدخل بكل سهولة، فضلا عن المواد الحادة من قبيل الأسلحة البيضاء، كما تم تسجيل مجموعة من سرقات لأغراض تابعة للمؤسسة، وكان آخرها عندما استولى مجهولون على مخزن الأدوية الخاص بالمستشفى.
المعلومات المتوفرة حول هذا الملف، تكشف أنه بسبب عدم اكتمال الأشغال، فإن فتحة على شكل باب آخر للمستشفى لم يتم إغلاقها، مما يسهل مأمورية دخول المدمنين لتناول جرعاتهم داخل أسوار المستشفى.
الصحافي الضحية
على هامش هذا التحقيق، استمعت الجريدة إلى وجهات نظر مختلفة، بعدما تناسلت شائعات مفادها وجود عمليات «سمسرة» في قضية إيواء النزلاء، الأمر الذي دفع بصحافي الجريدة إلى تقمص دور أحد أفراد عائلة نزيل مفترض، قصد الوقوف على حقيقة الأمر بخصوص ما يدور داخل المؤسسة. فبعد الوصول إلى بوابة المؤسسة الصحية، كانت أسئلة الحارس تتوالى علينا كما لو كنا نخضع لتحقيق أمني، قبل أن يحيلنا على أحد المسؤولين عن المؤسسة، حيث صادفنا المسؤول المذكور حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا حاملا بين يديه قهوته الصباحية. الأخير لم يمهلنا سوى ثوان معدودة، قبل أن يفطن إلى أن الأمر غير طبيعي، لتظل ملامحه وأسئلته تحاول اكتشاف حقيقة الهدف من الزيارة.
وحول إمكانية إيواء نازل يقطن بأحدى المدن الداخلية، ويعاني من خلل عقلي، كان جوابه صارما، حيث شدد على أن المؤسسة «لا يمكن لها أن تقدم مثل هذه الخدمات، على اعتبار أن من شأن الإقامة الدائمة أن تؤدي إلى هروب النازل، مما يجعلها أمام مسؤولية كبيرة في هذا الأمر».

مسؤولون «كونجي»
على هامش إنجاز هذا التحقيق، اتجهت الجريدة إلى المؤسستين الوصيتين على القطاع محليا، الأولى مندوبية الصحة بالمدينة، بيد أن كاتبة المسؤول الرئيسي واجهتنا بأن الأخير خارج المدينة، على اعتبار أنه في عطلة، ونظرا لخطورة الوضع، فضلا عن المعطيات الصادمة التي حصلت عليها الجريدة، فإننا لم نكتف بالزيارة حيث ربطنا مجددا الاتصال بهذا المسؤول، لطرح بعض التساؤلات حول هذا الملف، قبل أن يطلب منحه مهلة إلى حين عودته من العطلة السنوية، في حين اتجهنا صوب المستشفى المعني، غير أن المشرف الرئيسي بدوره كان يقضي عطلته السنوية.

استسلام حكومي
أمام هذا «الواقع المزري» تقول مصادر طبية فضلت عدم الكشف عن هويتها، إن الكل كان ينتظر من الحكومة الحالية التدخل، لتحسين مرافق هذه المؤسسة الصحية التي تزداد تأزما بشكل سنوي، غير أن ما يشبه استسلاما سجل رغم توصلها بتقارير صادمة حول هذا الملف، ومن ضمنها تقرير قضاة المجلس الجهوي للحسابات. وتكشف هذه المصادر الطبية، أن أول من جعلته الوزارة الوصية في خط الدفاع الأول وتحميله المسؤولية، هم العاملون والأطر الطبية، بالرغم من كونه طرفا متضررا وضمن الحلقة الأضعف حول الأوضاع المأساوية.
وتقول المصادر الطبية، إن المسؤولين يدفعون في اتجاه تجريم العاملين وخصوصا الممرضين، وذلك لدفع المواطنين إلى فقدان الثقة في المشتغلين في قطاع الصحة، ويظهر ذلك من خلال السب والشتم بل حتى الاعتداءات الجسدية التي يتعرضون لها، من قبل عائلات المرضى والنزلاء، مما يجعل «مستشفى بني مكادة» كما يحلو لسكان البوغاز أن يسموه، يعيش على وقع سخط ضمني من طرف العاملين داخله، خصوصا الأطر الطبية التي تحتك مع النزلاء وعائلاتهم، في ظل وجود طرف آخر يراقب الأمور انطلاقا من المكاتب، ويظل يتتبع ما يجري عبر اتصالات عاملين بالمؤسسة، بحسب المصادر نفسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى