شوف تشوف

دين و فكر

وداعا أيتها «البورجوازية الملتحية»

زعيمنا الأوحد.. لا دينا أقامه.. ولا عدلا نشره.. ولا تنمية بثها في أرجاء المكان.. رأسماله في هذه الدنيا كلام في كلام..
قال لي «أبو أيمن» يوما عندما حدثته عن «الوزير»، الذي يسقي مزرعته من الماء الصالح للشرب:
ـ لا عليك.. سيأتي ذلك اليوم الذي نحاسب فيه هذا المسؤول الكبير على جرمه هذا.. ونضرب على أيدي أمثاله حتى يكون عبرة للآخرين..
كَذَبَ «الزعيم».. علمت بعد مرور سنوات عن هذا الكلام أن «زعيمنا» كان على اتصال دائم بالوزير.. كيف؟؟ الوزير الذي يسرق ماءنا؟؟ نعم.. هو بلحمه ودمه.. «قائدنا العظيم» كان ينسق معه.. ويبعث إليه بالرسائل الورقية.. وأيضا المشفرة.. لا أصدق!! جارنا «الوزير».. الذي يسقي الخضر والفواكه من ماء الدولة في زمن القحط والجفاف هو الوزير نفسه الذي كان على علاقة دائمة بـ«أبو أيمن»..
بعد أن سكت عني الغضب.. وهدأت أعماقي.. فهمت بعد سنين من الغفلة أن «الوزير» الذي سقى «جنته» بالماء العام، ودون أن يؤدي فاتورة الاستهلاك لصندوق المال العام، هو الوزير ذاته الذي أنبت «الجماعة».. وكان «يسقيها» بتوجيهاته.. ونصائحه.. وتعاليمه.. وحرص على أن تنمو.. وتكبر أمام عينه.. كما نمت الخضر والفواكه والأعشاب فوق مزرعته.. حتى إذا ربت، واخضرت، وازينت، وظن الناس أنها «الجنة الموعودة»، قذف بها سعادة الوزير في محرقة السياسة، فأصبحت هشيما تذروه الرياح..
ذهب الوزير عند ربه.. وترك جنته خاوية على عروشها.. وورث «أبو أيمن» كل شيء.. ظنَّ أنه سحق أعداءه، فانتصر عليهم.. وتوهم أنه أكثر ذكاء من وزيره الذي علمه.. لكن الحقيقة أن اللاحق كان أسوأ من السابق.. الأول شيد حصنه بماء «المخزن».. أما الثاني، فبنى مجده باسم الدين.. والدعوة إلى الله.. الأول لم يكن إلا عبدا للسلطان.. وأما الثاني، فتسلق على أكتاف الناخبين.. وأحب أن يكون عبدا للسلطان بواسطة الانتخاب.. وشتان ما بين الأمرين..
وشوش بعض «الإخوان» ـ سامحهم الله ـ ووسوس بعضهم لبعض بأن انتقادي لما وقع مرده إلى فشلي في الاستفادة من هذه الحركية الدعوية والسياسية التي عرفها في ما سبق الكاريان.. قال الذين في قلوبهم مرض: دعوه يرحل.. إن حاله مثل حال الذين إن أعطوا من المغانم رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون.. هذا غير صحيح.. ستكون حجتهم هذه منطقية ومقبولة إذا وقفتُ يوما ما بباب «الزعيم» أو غيره أتسول منصبا أو مقعدا في البرلمان أو جاها أو مالا أو حظا في هذه الدنيا كيفما كان شكله أو حجمه أو وزنه، ثم حرمت من ذلك.. هذا لم يحصل قط..
إنه ـ أيها المرجفون ـ سير طويل إلى الله.. بحثت عن الله عند الفقيه «بوشتى» والشريف «دحمان»، فلم أجده.. وعند الرجل صاحب اللحية الطويلة، فلم أعثر عليه.. سألت عنه عند الزعيم الإسلامي «أبو أيمن»، وعند «الجماعة»، فلم يدلني عليه أحد..
لم يكن هؤلاء وغيرهم إلا محطات للاستراحة في طريق سيار.. أتزود منها وأجدد فيها أدوات التفكر والفهم والتأمل.. وأقف من خلالها على مكايد الناس ومصايد الدنيا..
كان لا بد أن أكمل المسير..
ذهبت إلى «أبو أيمن» أخبره باستقالتي.. لم يتقبل هذه الإهانة.. لأن الزعيم لا يقبل أن يستقيل عنده أحد، فهو الذي يعين من يشاء.. ويطرد من يشاء.. ويقيل من يشاء..
قال صديق «الوزير» الذي سرق ماءنا:
ـ اسمع يا هذا.. أخبرك بالنيابة أن «الجماعة» أصدرت أمرا بفصلك نهائيا عنها وفق المساطر الإدارية الجاري بها العمل لديها.. ووفق مواثيقها.. وقوانينها الداخلية.. أنت الآن حر.. لم تعد تربطك بنا علاقة من أي نوع..
جرى الجواب على لساني دون تفكير:
ـ أظن أنه ما زالت تربطنا لا إله إلا الله محمد رسول الله..
ضحك «أبو أيمن» ملء فمه.. ثم قهقه بصوت عال.. ثم عبس ونظر.. ثم ضغط بكرشه المنتفخة على حافة المكتب، فانفلقت إلى كرتين صغيرتين.. ثم قال محافظا على بعض من هدوئه:
ـ بطبيعة الحال.. أعني بكلامي العلاقة التنظيمية التي كانت تجمع بيننا.. وانس أي صداقة كانت تجمعنا..
أجبته هذه المرة بعد روية وتقليب نظر:
ـ الحمد لله كثيرا.. أشعر الآن بسكينة عجيبة تنزل على قلبي وتسرح في عروقي كلها.. هل تعلم أيها «القائد» أنه يغمرني اللحظة إحساس يشبه إحساس امرأة تخلصت نهائيا من زوج ثقيل وممل ولم يكن يصلح لشيء..
انفلتت أعصاب «أستاذ العلوم».. هذه المرة وقف من مكانه كما وقف شعر لحيته البيضاء.. وأشاح بوجهه عني، مسترقا النظر إلى دار قديمة من دور المدينة العتيقة تتراءى من خلال نافذة مكتبه العريض:
ـ الزيارة انتهت.. يمكنك أن تتفضل (مشيرا إلى باب المكتب).. وبدون رجعة..
ـ بقيت لي كلمة واحدة.. سي… (ناديته باسمه الشخصي..)
ـ لا.. لا.. لم يعد بيننا كلام.. انتهى كل شيء.. انتهى كل شيء..
بدأ يتطاير اللعاب من فمه كعادته عند الكلام.. توجهت نحو الباب.. وكان يهم بدفعي خارج مكتبه، لكنه لم تكن له الشجاعة لفعل ذلك..
ضرب زعيمنا الإسلامي باب مكتبه بقوة بعدما تركته مشرعا، حتى قفزت السكرتيرة من مكانها (مكتبها يقابل مكتبه).. تحول لون وجهها من بياض «ريفي» إلى حمرة زادت من بريقه.. تناسقت الألوان كلها مع لون خصيلة متدلية على الجبين.. تعودت أنا القادم من «الكاريان» على رؤية «محجبات» فقدن أنوثتهن.. وتكلست قسمات وجوههن من شدة الصرامة والحزم جراء تحملهن أعباء «الحركة»، و«التكاليف الدعوية» التي يصدرها «القادة» القابعون في مكاتبهم المكيفة..
لأول مرة انتبهت إلى أن هناك فرقا شاسعا بين «إخوان وأخوات المدينة» وبين «إخوان وأخوات الكاريان» الذي عشت فيه «حلما إسلاميا» تحطم ـ في نهاية التجربة ـ على صخرة الوهم والضلال.. لم تسلم «جماعتنا المباركة» بدورها من شيوع «الفوارق الاجتماعية».. واتساع رقعة «البورجوازية الملتحية» مقابل وجود «بروليتارية» عريضة للمريدين والأتباع..
فتشت بعيني داخل أروقة مكتب الزعيم «الإسلامي»، فلمحت وجود «أخوات» أفزعهن جلف الزعيم وقلة أدبه.. ربما تعودن على ذلك، فـ«القائد» في مكتبه يبدو صارما ومالكا لزمام الأمور، لكنه أمام الأتباع وعدسات المصورين يوزع ابتساماته المصنوعة، متقمصا مرة جبة «الداعية» وأخرى جبة «السياسي».. وكان الدين هو «عكازه» الذي استند عليه في تحقيق كل ذلك..
أنستني «الأخت» السكرتيرة صلف الزعيم.. المهم أن رئيسنا «الكبير» عين موظفة جميلة بمكتبه بدل «رحال» الذي كان كاتبا.. وساعي بريد.. وحارسا للمقر.. وقهوجيا.. وحمال كتب.. ووو.. كل هذه المهام كان يؤديها «با رحال» بـ800 درهم في الشهر (سمعت الآن أنه حصل على ترقية مالية وعلى حساب في الضمان الاجتماعي).. دون شك ستتقاضى الفتاة الجميلة راتبا أحسن من راتب «رحال» ذي الوجه البدوي القادم من أعماق المغرب.. مستلزمات الحداثة والجمال يستحسنها «زعيمنا»، لكن الأكيد أنها مؤداة ـ بطبيعة الحال من زكوات الإخوان وبما جاد به المحسنون.. وربما تسقى بـ«ماء المخزن» بشكل أو بآخر..
وهل يؤدي زعيمنا الإسلامي شيئا من جيبه؟.. وهل سبق أن أدَّى صديقه الوزير فاتورة الماء من ماله الخاص؟
لم أجد ملاذا آمنا بعد توديع هذا «السياسي» المتسلط باسم الدين غير التوجه إلى المدينة.. هالني ذلك السور العظيم الذي بناه الأجداد.. والذي يحيط بالمدينة العتيقة.. وفي الوقت نفسه عكر مزاجي أحد السكارى وهو يتبول على هذا «الصرح» الذي مات من أجل تشييده مئات «العبيد».. وذكَّرني ما صنعه معي «أبو أيمن» المستبد بما كان يفعله سلاطين المغرب يوم كانوا يعلقون الرؤوس المعارضة ـ التي «سخنت» في يوم من الأيام وأرادت منازعة أولئك عروشهم الموروثة ـ على أبواب هذا «الحصن»..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى