دين و فكر

وقفة للمراجعة

إلياس بلكا
القرآن الكريم كتاب معجز، ما في ذلك شك.. وها هو ينادي على الناس منذ أربعة عشر قرنا أن يأتوا بمثل هذا الكتاب العظيم، لكن لا أحد قدّم شيئا، بل حتى لو اتفق الجميع على مجاراة القرآن فلن يستطيعوا: «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا».
والمعجزة – في تعريف العلماء- هي الأمر الخارِق للعادة، المقرون بالتحدّي، السالِم عن المعارضة.
وقد تساءل العلماء من قديم عن وجه الإعجاز في القرآن: أين يتجلى، وكيف؟ فأوّل ما لفت انتباههم، وانتباه العربيّ المعاصر لنزول الوحي، هو: البيان.. فالبيان القرآني قمة في السحر والبلاغة والتأثير وجمال الأسلوب والكلمات. ثم تعرّفنا على وجوه أخرى من الإعجاز، كالإخبار عن الماضي السحيق أو الإشارة لأحداث مستقبلة..
هكذا.. حتى جاء عصرنا مُحمّلا بالمخترعات التقنية والكشوفات العلمية.. فظهر نوع مهم من الإعجاز، وهو الموافقة التامة بين آيات القرآن التي تعرضت لموضوعات فلكية وطبية وطبيعية وبين مقررات العلوم الحديثة.
هذه الموافقة واضحة وبارزة لكل من درسها، ومنهم الكاتب والطبيب الفرنسي موريس بوكاي، فقد درس الكتب السماوية الثلاثة (التوراة والإنجيل والقرآن) من منظور العلم الحديث، فتوصّل إلى حقيقة وجود تناقض بين كثير ممّا في الكتابين الأوّلين وبين العلم، في حين لم يجد أيّ خطأ علمي في القرآن الكريم.. وضمّن هذا كتابه الشهير: La Bible, le Coran et la science
وهو متوافر ومترجم إلى لغات عدة بينها العربية.
تِبعا لذلك نشأت دراسات قرآنية خاصة اصطلح على تسميتها بـ: الإعجاز العلمي في القرآن. ومن التعاريف التي سيقت له: «ﺇﺧﺒﺎﺭ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺃﻭ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ ﺃﺛﺒﺘﻬﺎ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ، ﻭﺛﺒﺖ ﻋﺪﻡ ﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺇﺩﺭﺍﻛﻬﺎ ﺑﺎﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟبشرﻳﺔ في ﺯﻣﻦ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺻلى ﷲ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ».
فبرز سؤال، وإن طرحه القدماء بصيغة أخرى: هل يجوز تفسير آيات قرآنية، أو أحاديث نبوية، في ضوء الكشوفات العلمية المعاصرة؟
وهنا تفسيران مختلفان: فإما أنك تُفسر الآية وتستعين في ذلك بالعلم، فهذا التفسير العلمي.. كما إذا استعنتَ بعلوم التاريخ مثلا في شرح آية لها صلة بحادثة مضتْ. وإما أنك تقول إن هذه الآية تشير لهذه الحقيقة التي اكتشفها العلم الآن، فهذا الإعجاز العلمي..
إجمالا اتفق الأكثرية من العلماء على جواز التفسير الأول، لكنهم اختلفوا في الثاني باعتبار أن النص القرآني حقّ مطلق يعلو على حدود الزمان والمكان، بينما العلم إنتاج بشري يصيب ويخطئ.. لكن يمكن أن نقول: إن جمهور الدارسين والمفسرين في عصرنا سلّـموا بمشروعية البحث في هذا الوجه الخاص من الإعجاز، وشرطوا لذلك بعض الشروط، لعل أهمها أن تكون المعلومة العلمية التي حملنا عليها الآية حقيقةٌ علمية مؤكدة اتفق عليها أهل الاختصاص وثبتت عندهم بلا إشكال أو اعتراض. لذا يجب الحذر من تفسير الآيات الكونية في القرآن اعتمادا على النظريات والأفكار العلمية الظنية، أي التي لم تثبت بعد.. مثلا يمكن استعمال نظرية الجاذبية لأنها حقيقة لا غبار عليها، وإن اختلف العلماء مثلا في طبيعتها، بينما ينبغي الاحتياط في استعمال نظرية الانفجار الكبير، أو البيغ بونغ، إذ رغم أن أكثرية الفيزيائيين يؤمنون بها، لكن لم تقم عليها أدلة قطعية بعد. لذلك هنا حين يقدم الباحث تفسيرا ما يجب عليه أن لا يقطع به، بمعنى أن ينبه على أن ذلك اجتهاد منه، فلا يحمل الآية أو الحديث حملا قطعيا على النظرية العلمية التي ربما لم تتجاوز التخمين.
الحقيقة أنه يمكن حلّ كثير من مشكلات موضوع الإعجاز بأمرين: التريث في إطلاق الأحكام بالصبر على البحث والدرس، واحترام التخصّص ما أمكن، فالفيزيائي أقدر في مجاله، والبيولوجي أوثق في حقله.. وهكذا.
ثم من الضوابط التي تَوافق عليها أهل هذا الفن: التأكد من ثبوت النص وصحته في حالة الحديث النبوي، لأن القرآن ثابت كله، وأن تكون دلالة النص على الحقيقة العلمية واضحة من غير تعسّف وتكلف.
أخيرا ثمة ملاحظتان في تقويم دراسات الإعجاز القرآني:
– الأولى أن هذه الدراسات تقدمتْ كثيرا، وصارت لها كتب وأبحاث، وتداول موضوعاتها مئاتُ الباحثين من مختلف التخصصات، وتُعقد مؤتمرات دورية تجمعهم. ولعل جولة سريعة في موقع «الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة» بالأنترنت توضح ذلك بشكل لا لبس فيه.
– الثانية أن تأثير هذه الدراسات في الساحة الثقافية متوسط أو محدود، يكفي أن نستحضر مثلا انتشار ظاهرة اللاأدرية والإلحاد في بعض الأوساط في عالمنا، إذ السؤال مثلا: لماذا لم تستطع دراسات الإعجاز أن تساهم في علاج هذه الظاهرة؟
فكرتُ طويلا في هذه القضية، ويبدو أن لمحدودية هذا الأثر مجموعة أسباب أذكر منها:
1- تراجع الإقبال على القراءة في الأجيال الناشئة، فرغم تطور دراسات الإعجاز العلمي مقارنة بما كان عليه الحال منذ ثلاثين سنة مثلا إلاّ أن شباب اليوم لا يقرؤون بخلاف الحال مع شبيبة السبعينيات والثمانينيات، والتي كانت أكثر قراءة واطلاعا، وبناء عليه أكثر ثقافة ومعرفة بموضوع الإعجاز العلمي.
لذلك ينبغي تحويل الجزء الكبير من الأبحاث والدراسات في هذا المجال إلى صوت وصورة، أي يمكن تأسيس قناة تلفزيونية متخصصة، على شاكلة القنوات الوثائقية، أو قناة ناشيونال جيوغرافيك الأمريكية.
2- عدم انخراط القسم الأكبر من علمائنا وخبرائنا في الفلك والجيولوجيا والنبات والطب والحيوان والمعادن.. وسائر العلوم الطبيعية.. في أبحاث الإعجاز العلمي. ولو أن بعضهم فعل لتقدمتْ أكثر هذه الأبحاث.
3- بعض دراسات الإعجاز العلمي صعبة تتطلب حدّا أدنى من الكفاءة العلمية والمعرفة بالعلوم الدقيقة، فهذا مثلا المغربي إدريس الخرشاف أستاذ كبير وباحث مرموق وصل إلى مصافّ العالَمية، كما تدل على ذلك منشوراته باللغات الثلاثة والجوائز الدولية التي نالها.. وقد كتب كثيرا في الإعجاز، خاصة الرياضي، لكن قلة تستطيع مواكبة ما كتب، لأن فهمَه يتطلب – في رأيي والله أعلم- مستوى إجازة في الرياضيات.. على الأقل.
وهذه مشكلة معروفة في العلوم، لذلك ظهر في الغرب تخصص هو تبسيط العلوم
La vulgarisation des sciences
بينما المصري زغلول النجار أشهر، ربما لأنه أقدر على شرح الإعجاز القرآني في علوم الجيولوجيا، وهي تخصصه الأصلي، والفلك.. وغيرها، لعموم الناس.
هذه نفس العقبة التي يعرفها المنطق والإبستيمولوجيا، فالكتاب المهم لكارل بوبر: «منطق الاكتشاف أو الكشف العلمي» يحتاج استيعابه لمستوى قدّرتُ أنه يعادل الإجازة في الفيزياء.
4- قلة المفسرين في الأمة، إذ لا يوجد العدد الكافي من العلماء المتخصصين في تفسير الكتاب الكريم.. ومن باب أوْلى في تفسيرات الإعجاز العلمي.
أظن هذا يُلقي ضوءً كافيا على القضية لمن يريد أن يتخذها موضوعا للدكتوراه، أو لكتابة حرة، أو لندوة متخصصة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى