الرأي

«يا ورد مين يشتريك»

  أغرب الهدايا ليس بالضرورة أن تكون أثمنها وأجملها. والأسوأ منها ألا تصل، وإن كانت من قبيل النوايا والكلمة الطيبة التي تبعث الدفء والثقة. ودلني صديق على طريقة لإرسال ورود المعايدة إلى أبعد نقطة في العالم. إذ تجعل المستريح على سرير المرض في مستشفى بنيويورك أو برلين أو جنيف، كما الذي يحتفل بذكرى عيد ميلاده أو عقيقة، يشعر بأنك أقرب إليه، عند محطة القطار أو في فندق بالمطار.
لسبب وجيه تخطت باقات الورود المسافات والحدود، فقد تغنى بها الشعراء وكتب عنها الروائيون، ثم ما لبثت أن خضعت للتأقلم مع مستجدات العصر. وسابقت الطيور المهاجرة في أنها تنتقل من قارة لأخرى دون أن تنال مواسم الفصول من يناعتها.. لأن الورد لمن يقدم إليه، لا لمن يشتريه، على وزن الأغنية المصرية «يا ورد مين يشتريك»، وسميت النساء على اسمه للدلالة على جماله، أمثال وردة وياسمين وريحانة وزهرة وغيرهن.
أيام زمان، استقرت شركة في الواجهة الخلفية لشارع علال بن عبد الله في الرباط، تزين مدخلها بالورود من مختلف الأصناف. لا تبيعها مباشرة إلى الزبائن، وإنما ترسلها إلى حيث يريد الزبناء، رفقة بطاقة المعايدة التي تتضمن عبارات التهنئة بكل اللغات المطلوبة والمحتملة، فهي فرع لشركة عالمية موزعة في مختلف الأرجاء. وإذا كان المرسل إليه يقيم في الرباط، فإنها تتلقى مواصفات دقيقة بأنواع الورود التي يرغب صديق في إرسالها إلى العاصمة، أكان في باريس أو مدريد أو بيروت، كما ترسل النقود عبر التحويلات.
الفرق أن النقود يأتي من يحصل عليها بنفسه وبطاقته، فيما الورود تؤخذ إلى المرسل إليه دون مشقة. وغالبا تكون من حيث لا يدري، لأن ميزة تخصصات هذه الشركة أنها تزن الورود بميزان الذهب.. وكما فرق الله الأرزاق جعل لكل مهنة روادها.
والحال أن العملية نفسها، أي من الرباط في اتجاه العالم، تقوم بها فروع الشركة الأم، حيث توجد لها مقرات ومحلات تجارية، لكن ثمن باقة الورد تنضاف إليه كلفة النقل والضرائب، فالأمر يتعلق بتوريد وتصدير لا يخضع للجمارك وأصناف الائتمان المؤقت.
والأكيد أن العقل الذي فكر في تجارة راقية للورود، ليس مثل من يفكر في تصدير الأسلحة ووسائل التدمير. غير أن صناعة البلاستيك هيمنت على كل شيء، مع أن قيمة الورود في رائحتها وألوانها وحميميتها. وإن كان العاملون في الشركة ينوبون عن المعنيين بتقديمها. وليس مثل مصافحة اليد لليد بلا وسائل.
ودهش وزير كان يقيم في مصحة في باريس كيف أن صديقه بعث إليه باقة ورد يانعة، من دون أن يركب الطائرة أو يغادر مكتبه في المغرب. وربما صنف هذا الاكتشاف في عالم العلاقات أنه من قبيل خدمات «الفاست فود» ذات السرعة العالية، لا سيما وأن أعمار الورود لا تحتمل وقتا أطول. بل إن تعليبها وشحنها بعد الجني يفرض نوعا من الدقة التي تراعي طقوس تفتحها.
أما اليوم فقد صارت تكنولوجيا الاتصالات تنوب عن الشركات التي تستقر في العواصم، وتنتدب الكثير من الموظفين الذين يقدمون خدماتها، ويكفي الضغط على تطبيقات محددة، لتصل التهاني مشفوعة بصور أصحابها وحركاتهم وأصواتهم. فالاختراع يبقى مثيرا إلى أن تنسخه ثورات وتحولات. وبعد أن كانت الكتب الصغيرة حول تعلم كتابة الرسائل تسجل الأرقام القياسية في المبيعات، كما هواة الطوابع البريدية، لم يعد أحد يهتم بتعلم فن كتابة الرسائل.
لكني أواصل مع الهدايا، وأذكر أن الفنان الطيب الصديقي كان متوجها في رحلة إلى القاهرة، وسأل صديقا إن كان يرغب في شيء يجلبه إليه من أرض الكنانة. تعفف الصديق وقال له مازحا: «أريد رؤية الكوميدي الساخر إسماعيل ياسين». ولم يعد يعير اهتماما للموضوع، إلى أن طرق باب غرفته الطيب الصديقي برفقة الفكاهي المصري، وقال له: «لو تمنيت شيئا آخر لأحضرته لك». وما بين أصل الأشياء والحكايات التي يقال إنها فرع من تصوراتها، سيعرف ذلك الصديق أن المسرحي المغربي أغرى الفكاهي المصري بفكرة تصوير فيلم سينمائي في المغرب. لكنه لم يعد يراه منذ أن سلمه إلى صديقه مثل أي بضاعة، فكانت الهدية أشبه بضريبة إقامة مفروضة، إلى أن غادر إسماعيل ياسين المغرب، وفي نفسه الكثير من المؤاخذات على الحيلة التي انطلت عليه بحسن نية.
ولم أستطع نسيان هدية الراحل أحمد الطيب العلج الذي قال لي يوما، وقد حللت ببيته لحظة توزيعه هدايا على الأهل والأصدقاء: «لا تقلق فقد أحضرت لك هدية لا تقاس بثمن»، وشرح بأنه حمل إلي المحبة في قلبه. وما المحبة بشيء ملموس باليد، ولكنه «محسوس» إن جاز التعبير.
من غرائب الهدايا أنها تأتي أحيانا على قدر ما يتوخاه المرء. وتعب موظف رفيع في اختيار هدية يقدمها لوزيره في ذكرى احتفاله بمرور كذا من الأعوام على تقلده المنصب الرفيع. فكر في اقتناء مزهرية فأنبه ضميره لأن الوزير يتوفر على ما يكفي من المزهريات وزيادة. ردد مع نفسه أن تقديم كتاب قد ينزع عنه الحرج، لأنه أغلى قيمة، ثم أدرك أن الوزير يمكن أن يفسر ذلك بأنه يحتاج إلى العودة إلى فصول الدراسة، ثم اهتدى إلى هدية لا تخطر على بال.
ذهب إلى فقيه، كان يعرف أن الوزير يتردد عليه لكتابة «أسرار القبول» على حد زعم رواد المهنة. وطلب إليه أن يمده بشيء يكون أقرب إلى قلب ومشاعر وعطف الوزير. فكتب له تعويذة، قال إنه سطرها بمداد الذهب، كي تليق بمقام الوزير. وضعها الموظف في علبة لائقة وسلمها بيده إلى الوزير قائلا: إنها تنفع في رد شرور الحاسدين.
لم يمض وقت طويل على تسلم الوزير هدية الموظف حتى أزيح من منصبه، وعزا ذلك إلى تلك التعويذة التي كانت نذير شؤم عليه. واضطر الوزير إلى فتح تلك التعويذة، والعهدة على من روى على سبيل الفكاهة، أن اسمه كتب مقلوبا.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى