الرأي

يوم انفلت زر قميص وزير الخارجية

لم تنسج قصص وأساطير، كما في تصوير ما يمكن أن تحتويه الحقيبة الديلوماسية. لندع جانبا ما له علاقة بالإرساليات وحاجيات الدول والسفارات، فالحقيبة تنصرف إلى ما يمكن أن تحمله بواخر وطائرات، ونغوص في عالم الحقيبة المحمولة باليد.
لم ينته وزير نقل سابق، كان يحمل رسائل إلى قادة دول إفريقية، إلى أنه أخطأ العنوان. وبدل أن يقدم الوثيقة إلى رئيس غينيا الاستوائية حملها إلى غينيا بيساو، وكاد الأمر أن يتسبب في أزمة، لولا أن علاقات المغرب بالبلدين كانت متينة إلى حد لا يتزحزح.
وتصور مبعوث أن فصاحته يمكن أن تجنبه حرج إتلاف رسالة، غير أن الهاتف الموصول أسعفه في تجاوز المأزق، فاعتذر عن خطئه غير المقصود واستمر في مزاولة مهامه. غير أن قيمة الحقيبة الدبلوماسية ستزيد، يوم واجه وزير الخارجية المغربي الأسبق محمد بوسته، موقفا لم يكن يدعو إلى القلق.
حدث ذلك خلال زيارة قام بها إلى موريتانيا رفقة كل من عبد الكريم غلاب وعبد الحق التازي. كانت العلاقات بين الرباط ونواكشوط بدأت في عام 1969، على خلفية مشاركة الرئيس الموريتاني الراحل المختار ولد دادة، في أول مؤتمر لمنظمة المؤتمر الإسلامي استضافه المغرب. وشكل تعيين قاسم الزهيري القيادي الاستقلالي، سفيرا لبلاده في موريتانيا حدثا لافتا، أزال كثيرا من الأشواك التي كانت تدمي الأقدام. وتلقى الموريتانيون المبادرة بكثير من الترحاب، ورأوا في زيارة محمد بوستة زعيم الاستقلال، ووزير الخارجية بعد ذلك، عربون صداقة ومودة.
حطت الطائرة في مطار نواكشوط الذي كان أشبه بأرض خلاء، لولا بعض البنايات المتواضعة وحركة بطيئة تدل على أنه منشأة حيوية، تقلع منها وتحط بها رحلات قليلة تحسب على رؤوس الأصابع. لكن الاستقبال كان حارا وصادقا يليق بمستوى علاقات البلدين الجارين. فقد عرف عن وزير الخارجية الموريتاني حمدي ولد مكناس، أنه كان ذا رؤية عميقة، ودفع دائما في اتجاه إقامة محور مغربي-موريتاني كان يعول على أن يشمل أطرافا مغاربية أخرى، في وقت لاحق.
من سمات كرم الضيافة أن الموريتانيين ينحرون الجمال أو الماعز احتفاء بضيوفهم. ولا تكتمل مائدة الطعام دون جلسة القرفصاء والأكل بأصابع اليد، إمعانا في ألفة البساطة. ومثل من يتوجه إلى بيته المفتوح، كان قصر الرئاسة يكاد يخلو من الحراسة والإجراءات البروتوكولية، حيث لا مكان للانتظار.
قبل أن يتوجه وزير الخارجية محمد بوسته إلى القصر الجمهوري، لفت نظر مرافقه السفير محمد بيس بيس، أن «صدفة» في قميصه التي كانت تعلو ربطة عنق أنيقة، انفلتت من مكانها، وكان إذا جلس يمكن أن يلحظ من يقابله لون سترته الداخلية. لم يكن بوسته تخنا، فقد حافظ دائما على رشاقته، بل إن وزنه يكاد لا يتغير من دون أن يفصح عن السر في ذلك. لكن الذين يعرفونه يرددون أنه يتكلم حول مائدة الطعام، يحكي الطرائف والنكت الذكية، حتى لا يضطر إلى الانغماس في الأكل. فقد كان ذاك أسلوبه في عدم إحراج مضيفيه.
من غير اللائق أن يجتمع وزير خارجية مغربي إلى الرئيس الموريتاني وقميصه انفلتت منه «الصدفة»، يقول السفير بيس بيس الذي حنكته الأوفاق الدبلوماسية. وعوض انتظار الإجابة، مال إلى حقيبته الدبلوماسية، ثم فتحها وأخرج منها إبرة خياطة وصدفة في لون القميص الأبيض.
كان يضع على عينيه نظارات سميكة، وبدا أشبه بمصلح ساعات يدقق في ثقب الإبرة. أدخل الخيط مثل خياط ماهر وشرع في العمل. كان بوسته مندهشا لبراعة الدبلوماسي الذي احتاط لأي شيء طارئ. لم يسأله كيف اهتدى إلى أن يحمل حقيبة دبلوماسية تضم نوادر الأشياء. غير أن بيس بيس، الذي عرف أيضا بدقته وحذره الشديد، كان يضع في الاعتبار أن فن الدبلوماسية هو كذلك فن تجاوز المآزق. فقد كانت حقيبته تضم بعض الأدوية كما بعض الوثائق التي تحمل علامة «سري جدا».
والراجح أن السفير بيس بيس، الذي لم تكن تفارقه حقيبته، كان حذرا أن يتعرض لمكروه. ولعله لم يكن يلغي من حسبانه أن حقيبته قد تتعرض للسرقة. لذلك فقد عمد إلى حشوها بما لا يفيد العيون والآذان المبثوثة، وإنما يفيده في أن يظل نموذجا للسفير الذي لا ينس شيئا، بما في ذلك أقراص الأسبرين وأوجاع الأضراس ومغص الأمعاء، فالمسافر يحمل معه أتعابه أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى