شوف تشوف

الرئيسية

104 سنوات على أشهر وثيقة باعت المغرب لفرنسا بالمجان

«رغم أنهم أطلقوا عليها اسم معاهدة الحماية، إلا أنها لم تكن كذلك. حسب المعطيات التاريخية التي «نقبنا» عنها في هذا الملف، فإن المعاهدة كانت فقط بين الإدارة الفرنسية وبين المولى عبد الحفيظ. لم يكن هذا الأخير يملك خيارا آخر، لأنه أصبح مطوقا من كل جانب، فيما كانت النخبة المغربية تعيش تفككا كبيرا، وهو ما كان يعني أن فرنسا تلعب المباراة وحيدة. تم التوقيع، فاستفاق الأعيان على كابوس الخوف من ضياع مصالحهم، فقاموا بتأجيج الناس لمقاتلة فرنسا. وقع انشقاق في الجيش المغربي الذي كان ضعيفا جدا، ومات مغاربة كثيرون بعد أن قامت فرنسا بالتدخل لـ«حماية» الحاكم، وما وقع أن الكل اتخذوا مواقعهم بعد أن تأكدوا أن المعاهدة لن تمس مصالحهم. وهكذا قُدم المغرب بالمجان لتحكمه فرنسا..».
قطعت رؤوس لفرنسيين ونصبت فوق العصي وطاف بها المغاربة شوارع فاس وساحاتها، حتى يراها الفرنسيون ويدركوا أن معاهدة الحماية التي أبرمتها فرنسا مع المولى عبد الحفيظ لا تمثلهم. كان الرد الفرنسي عنيفا جدا، وهكذا بدأت معاهدة الحماية تفقد شرعيتها عند أول امتحان.
ما لا يعرفه المغاربة، ولا يود مدونو التاريخ الرسمي لنا أن نعلمه، أن الدولة شهدت ارتجاجا كبيرا بعد توقيع الاتفاقية، لدرجة أن انشقاقا كبيرا وقع في الجيش المغربي، وغادرته بعض الأسماء الوازنة لتنضم إلى الثوار الذين رفضوا المعاهدة.
لكن ما لا يعلمه هؤلاء جميعا، أن الأعيان الذين دفعوا الناس إلى التمرد والعصيان ورفض الاتفاقية، كانوا فقط يلعبون وفق مصالحهم الشخصية، وما إن ضمنوا أن الاتفاقية لن تضر بمصالحهم في الدولة، حتى تخلوا عن الثوار، وتركوا لفرنسا اختيار نسفهم، لإجهاض الثورات التي كانت تتناسل في محيط مدينة فاس، وصولا إلى جبال الأطلس. وهكذا كانت فرنسا تعمل سياسيا على الإبقاء على المعاهدة سارية المفعول، بعد مغادرة المولى عبد الحفيظ للحكم وللمغرب أيضا، وعسكريا على إخضاع الرافضين للوجود الفرنسي في المغرب، ويتعاون معها بعض الأعيان الذين كانوا في البداية يرفضون معاهدة الحماية!
كان ممكنا، وفق السيناريو الأول الذي انطلق فور شيوع خبر معاهدة الحماية، أن يلغى كل شيء، خصوصا وأن الغاضبين كانوا يطالبون بمغادرة المولى عبد الحفيظ للحكم، وإلغاء كل شيء. فالغضب الشعبي على «النصارى» عموما كان على أشده في تلك الفترة، ولم يكن المغاربة يقبلون نهائيا أن يوجد بينهم أناس شقر لا يدينون بدين الإسلام. لكن الأقلية التي كانت تدرك أن العالم تسيره فرنسا وليس علماء الدين، كانوا يلعبون وفق مصالحهم، خصوصا وأن لقب «المحمي» الذي وزعته أوربا بسخاء في المغرب، لعب دورا كبيرا في جعل فرنسا تفوز بموافقة التجار والسياسيين والأسماء المؤثرة في اختيارات الدولة، خصوصا من الناحية السياسية.
المعاهدة هنا أصبحت مجرد أكذوبة، بما أنها ليست عهدا بين طرفين. ففرنسا التي بقيت في موقعها، وجدت نفسها مع طرف آخر بعد مغادرة المولى عبد الحفيظ، لكن هذا الطرف لم يرفض الاتفاقية.. فيما تبقى الإرادة الشعبية أو السواد الأعظم، بعيدا جدا عن اتخاذ قرار في هذا الموضوع.
لم تكن فرنسا مهتمة بالشرعية على كل حال، لأنها لم تكن تعمل على الفوز بها، ما دامت قد نزلت على المغرب عسكريا، وخاضت معارك دامية لترسيخ «معاهدة» يفترض أنها تُرسخ بالتوقيعات، وليس بالإبادة.

حقائق تجاهلها التاريخ الرسمي بخصوص أحداث 1912 

بعض الأطراف أرادت لنا أن نؤمن أن معاهدة الحماية فرضت بالقوة على المغرب، لكن الواقع أنها تمت بالتراضي بين طرفين فقط، فيما بقي المعنيون بها، أي المغاربة، خارج الحسابات.
لنفهم الموقف المغربي بشكل واضح، من معاهدة الحماية التي فرضت بشكل رسمي في 30 مارس 1912 لا بد أن نعود إلى الوراء لنعرف الكواليس التي أدت إليها.
قبل 1912 بسنوات، كان المغرب يغلي على صفيحة ساخنة جدا من الأحداث. التسابق الأوربي على أشده، ولا أحد يستفيد من أي مكانة اعتبارية ما دام عبد العزيز نفسه، قد غادر القصر بفاس وترك منصبه لأخيه. المولى عبد الحفيظ هو الذي وقع معاهدة الحماية، وإلى اليوم توجد أطراف كثيرة تتهمه بالرضوخ للإرادة الفرنسية، لكن واقع الأمر كان يقتضي أمورا أخرى، خصوصا وأن الذين يذهبون في هذا الطرح لا يستحضرون الأحداث والظروف التي كانت تحيط بالمغرب في ذلك الوقت.
الكلام هنا للمولى عبد الحفيظ، مقتطف من حوار، يزعم صاحبه أنه نشره في جريدة «التايمز»، قبل أن يقرر نشره في كتاب مذكراته، للذكرى. مما نُسب إلى المولى عبد الحفيظ، في هذا الحوار الذي أجري سنة 1909، متحدثا عن ميوله إلى البريطانيين ونفوره من الفرنسيين: «أنا لا أرى أي داع يجعلهم يتأخرون في التعامل معي. أعترف في البداية أنه كانت لديهم أسباب معقولة للتوجس مني، بسبب الحرب بيني وبين أخي مولاي عبد العزيز، لكنني لم أقم يوما بالإعلان عن حرب مقدسة ضد النصارى. بمجرد ما وصلت إلى فاس بذلت قصارى جهدي لأخضع القبائل وأجلب السلام إلى بلدي. كما أنني أرسلت مبعوثين إلى طنجة ليلتقوا مع الدبلوماسيين وينقلوا إليهم موافقتي على شروط مؤتمر الجزائر. لقد وضعوا اتفاقية بين فرنسا والجزائر بخصوص بلدي المغرب. عندما نحصل عليها يجب أن تطلع عليها وتدلي برأيك، حتى يتسنى لي الرد عليها والقيام برد فعل مناسب.
من الأكيد أنهم سوف يرون أنني أتخذ موقفا سليما في تعاملي مع المسيحيين، خصوصا البريطانيين منهم. لو أن بريطانيا تتقدم لمساعدتي، فسوف أضع نفسي بين أيديهم كليا. عندما جاء إلي الرجلان الإنجليزيان إلى فاس وطلبا الحصول على منصبين في حكومتي، لم أرفض طلبهما، وأبعدت الفرنسيين والألمان ووضعت الإنجليزيين مكانهما. جاء أيضا دكتور إنجليزي، وعينته طبيبي الخاص، ولم أسأله شيئا. الألمان أرسلوا إلي الدكتور فاسيل، واعترفوا بي كسلطان للمغرب، لكنني أفضل الطبيب الإنجليزي اعتبارا لمكانة بريطانيا».
لا يمكن أن نفهم من كلام المولى عبد الحفيظ غير التوجس. فهو واقف بين نارين، الأولى نار الأجانب والمنافسة الاستعمارية التي تُقدم عادة في ثوب الصداقة، والنار الأخرى، وهي الأشد بأسا، ما يقال عنه في المجالس الخاصة التي يحضرها الأعيان والعلماء. والحقيقة أن المغاربة كالوا له بمكيالين، لأن المغرب كان يتوفر على عدد كبير من الأعيان والأغنياء، الذين كانوا يجهرون بأنهم محميون وأنهم يخدمون مصالح أوربا في المغرب، مقابل الامتيازات القانونية والاجتماعية التي حصلوا عليها. يُترك هؤلاء ويحاسب المولى عبد الحفيظ على قربه من الأجانب، والحال أنه على رأس الحكم في المغرب، والبلاد كلها كانت مخترقة من طرف الأجانب. لا أحد كان مستعدا لخوض قتال شرس ضد الأجانب جميعا، فرنسيين كانوا أو بريطانيين أو حتى ألمانا.. الكل كان يتأرجح حسب مصالحه الخاصة، وهكذا كان المولى عبد الحفيظ مجبرا على اللعب بدوره، حتى يحفظ لنفسه المنصب الذي وصل إليه بعد تنحية أخيه قبله.
معاهدة الحماية الفرنسية كانت نهاية المسرحية التي لعبتها بريطانيا ضده، فبعد أن تأكد أنه صديق وفي لبريطانيا، تفاهمت الدولتان على انسحاب الإنجليز وبقاء الفرنسيين، وهكذا كان على المولى عبد الحفيظ أن يؤدي ضريبة جفائه لفرنسا، ويقبل التوقيع على معاهدة الحماية التي مرت في ظروف عجيبة ومضحكة أيضا، لأن الاتفاقية كانت تخدم فرنسا فقط، وأبرمتها مع المولى عبد الحفيظ مقابل امتيازات شخصية له تضمن استمراره في الدولة، وهو ما حول البلاد إلى بركة من الدم.
عاد الغضب إلى الشارع واستعمل الأعيان والأغنياء من جديد ورقة الدين ليؤججوا الغضب ضد المولى عبد الحفيظ، عل مغادرته للعرش تلغي الاتفاقية، لكن فرنسا كانت ذكية واستبقت المغاربة جميعا إلى ضمان بقاء الاتفاقية سارية المفعول حتى بعد مغادرة المولى عبد الحفيظ للحكم. وهكذا كانت معاهدة الحماية أكذوبة كبيرة، لأنها تمت بين طرفين لا يمثلان الإرادة ولا الشارع المغربي.. كانت، كما سنرى في هذا الملف، لعبة في الخفاء، وقمعا للمغاربة في الشوارع، لتسبح البلاد في أنهار من الدماء، دون أن تلغى المعاهدة.

الجنرال بريلاير.. لعنة عسكرية زادت من إضعاف المغرب
رغم أنه وإلى حد الآن، مرت 104 سنوات بالضبط على يوم توقيع معاهدة الحماية، فإن الانشغال بما وقع بالضبط في آخر أيام شهر مارس من سنة 1912، لم يسلط الضوء بما يكفي، لمعرفة الكواليس التي جعلت المغرب يخضع لفرنسا إداريا، بعد أن رُتبت الأمور فوق الطاولات، وتحتها أيضا.
في منطقة ظهر المهراز بفاس، نصبت خيام وطوقت بسياج أمني يحصي أنفاس الداخلين والخارجين. وقع هذا بالضبط في منتصف أبريل 1912، أي بعد أيام فقط على فرض معاهدة الحماية. كان هناك جنرال اسمه «بريلاير»، وهو الذي كان المسؤول العسكري الأول عن المنطقة، كان معه أيضا مساعده مونيي، وعقيد عسكري كان مشهورا باسم «فيلبو». هذا الأخير عرف بقسوته الكبيرة وبمبالغته في تنفيذ أوامر رئيسيه. بعض المغاربة كانوا يحتفظون له بذكريات سيئة جدا، بالرغم من أنه لم يكن المسؤول العسكري المباشر عن المأساة التي لحقت المواطنين، جراء «الحرب الأهلية» التي نشبت بين الرافضين للحماية وبين الموالين للمولى عبد الحفيظ الذي وقعها، كما تقول بذلك مصادر تاريخية كثيرة، لعل أهمها هو التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير، والذي اعتمد فيه صاحبه، المؤرخ الفيلالي، على وثائق رسمية من القصر الملكي بشكل مباشر.
هذا الفريق من المسؤولين العسكريين، والذين يمكن أن نضيف إليهم كلا من القبطانين بوردوني ومارشال، كانوا جميعا يسهرون على إخضاع فاس، التي كانت وقتها عاصمة إدارية وسيادية للمغرب. لم تكن المهمة سهلة، خصوصا وأن الغضب العارم على المولى عبد الحفيظ، كان على أشده، يقوده باشاوات وعلماء من القرويين بفاس، بالإضافة إلى مشايخ آخرين من منطقة سوس وكافة المناطق المغربية الأخرى، المؤثرة.
المواجهة بدأت عندما بدأ الناس يطالبون بإقالة المولى عبد الحفيظ، خصوصا إذا علمنا أنهم دعموه لتولي الحكم، حتى يتخلصوا من أخيه عبد العزيز الذي وجهت إليه تهم مماثلة بسبب صداقاته مع الأوربيين. ولم يكن يخطر ببال هؤلاء جميعا، أن المولى عبد الحفيظ، سيذهب بعلاقاته بالأوربيين بعيدا، إلى درجة أنه سيوقع على معاهدة الحماية، والأكثر من هذا أنه تطلب تدخل الفرنسيين لاحتواء الأوضاع في المغرب، بعد أن تيقن أن الأمور في الشارع المغربي لا تسير لصالحه، وهكذا جاء هذا الجنرال «بريلاير» ليكون يدا غليظة تضرب بها فرنسا على يد المعارضين لاتفاقية الحماية.
تقول بعض الإحصائيات الرسمية إن عدد الجنود المغاربة الرسميين وقتها لم يكن يتجاوز 3000 جندي، وهو رقم ضئيل جدا، أمام الحاجة الأمنية للمغرب، لاحتواء الأوضاع. الأخطر من هذا أن بعض الأسماء البارزة في الجيش المغربي كسعيد البخاري والقائد لحسن الشرادي، والقايد مبارك بوخبزة والقايد إدريس الشرادي، والقايد قاسم.. انضموا جميعا إلى الثورة وكانت مغادرتهم للجيش مؤثرة على الجنود، الذين انضموا إلى ثورة رؤسائهم السابقين في الجيش، وهو ما جعل العدد الإجمالي للجنود المغاربة يتقلص إلى حدود الثلاثة آلاف جندي، وهو العدد الذي لم يكن كافيا لمواجهة أصغر تمرد قادم من وراء الأطلس نحو فاس، خصوصا إذا علمنا أن القبائل هناك كانت تتحرك بأزيد من 10 آلاف شخص مسلحين جميعا بالبنادق، وهو ما يعني أن الجيش الرسمي سيهزم لا محالة، عند أول مواجهة.
هاجت البلاد وماجت، وهو ما أضعف شرعية اتفاقية الحماية، والتي تبين منذ الأسبوع الثاني لعقدها، أنها لا تمثل أبدا إرادة الدولة المغربية، وإنما تمثل الذين وقعوها مع فرنسا فقط.
الفرنسيون لم يكونوا أغبياء، وتوقعوا أن يتم إسقاط المولى عبد الحفيظ حتى قبل إجراء التوقيع، لذلك بادروا سريعا إلى الفوز بتوقيعه على المعاهدة في أجواء رسمية، وبادروا إلى إنزال أمني كثيف بالمغرب، كأول تفعيل لمقتضيات الاتفاقية، وهو ما يعني أنها بإجراء واحد فقط، كانت ترمي إلى تحقيق هدفين، أولهما حماية مصالحها في المغرب وثانيها السهر على انتقال السلطة إذا لم تنجح على الأقل في الإبقاء على رمزها، حتى تضمن بذلك استمرار الاتفاقية رغم أنف الرافضين لها.
كان هناك مغاربة، للأسف، لم ينشقوا عن الجيش المغربي، لكنهم لم يبقوا موالين له، وهكذا انتقلوا إلى الولاء للجيش الفرنسي، والتنسيق بين جنرالاته، خصوصا الجنرال «بريلاير».. ونذكر منهم واحدا من أول الذين أعلنوا أنهم في صف فرنسا، وهو عسكري سابق في الجيش المغربي كان يدعى بوجمعة المسفيوي. هذا الأخير يبقى أهم المتحولين وأولهم، لأنه همس في أذن بعض العسكريين الفرنسيين أن المولى عبد الحفيظ يلعب معهم على الحبلين، وأنه كان يقف وراء الثورة التي يخوضها المغاربة ضد العسكريين الفرنسيين، ويظهر لهم الود بالمقابل، أي أن موقف المولى عبد الحفيظ مع الفرنسيين لم يكن صافيا رغم توقيعه على معاهدة الحماية. مسار بوجمعة المسفيوي تغير بعد هذا اللقاء بينه وبين الفرنسيين، ولم يعد جنديا بالجيش المغربي، وإنما تحول سنة 1913 إلى «محافظ» لمدينة بني ملال، وفي سنة 1920 أصبح محافظا لبني ملال وتادلة أيضا، وبقي في منصبه «محافظا» إلى أن مات، بعد أن قضى عقودا في خدمة المصالح الفرنسية بالمغرب.

هكذا ذُبح الفرنسيون وعلقت رؤوسهم فوق العصي ردا على معاهدة الحماية

الذين كانوا يدخلون فاس كانوا يلاحظون أن الأجواء كانت محتقنة جدا في فصل الربيع من سنة 1912. وحسب المصادر التاريخية التي تعود كلها إلى تلك الحقبة بالضبط، فإنها كانت تلتقي كلها في نقطة أن البلاد كانت على شفا حفرة من التمزق، بعد أن أصبح المغاربة رافضين للطريقة التي تسير بها البلاد من أعلى، مقابل أقلية ضئيلة جدا تدعم عبد الحفيظ، في مقابل قوة عسكرية فرنسية يزداد أفرادها وعتادها وسلاحها يوما بعد يوم.
أمام كل هذا المد العسكري الفرنسي لم يكن المغرب يتوفر إلا على بنادق بعدد أفراد الجيش، أو أقل بقليل، لأن إحدى الإغارات الفرنسية على الثوار المغاربة، الذين كانوا عبارة عن منشقين من الجيش المغربي، أدت إلى مصادرة كل ما كان بحوزتهم من سلاح. وحسب ما سجله الخبير العسكري الفرنسي «هيبير جاك»، فإن فرنسا صادرت يومي 23 و24 أبريل 1912، كل ما كان مع الثوار من سلاح، ولم يكن عدد البنادق المصادرة يتجاوز 1300 بندقية عتيقة وألفي سيف، ومثل ذلك الرقم من الهراوات والعصي.
المشكلة أن المغاربة لم يكن لهم علم دقيق بما كان يقع في البلاد. فمباشرة بعد هذه الهزيمة، انتشر الخبر في المناطق الأخرى، وجاء عدد من الزعماء إلى فاس، ومنهم من أرسل من يأتيه بالخبر اليقين من هناك. إذ كانت الأخبار القادمة من فاس تقول إن الفرنسيين نزلوا بالمغرب، وأذاقوا المغاربة ويلا كبيرا، ويعملون ليل نهار على إرهاب الناس، ولم يكن أحد منهم يعلم أن معاهدة الحماية قد وقعت، ولم يكونوا يفهمون التطورات السياسية بقدر ما كانوا يخافون انتشار البأس الفرنسي والتنكيل بالمغاربة وقتلهم في الشوارع، كما وقع في فاس.
كان هناك عقيد فرنسي اسمه «فوانوا» كتب مذكرات تُرجمت إلى العربية، نهاية السبعينات، على يد محمد أبو وكيل الذي كان أستاذا في جامعة باريس، وأطلق عليها «الآثار المجيدة لفاتحي المغرب»، في حين أن صاحبها عنونها بـ«يومياته» في المغرب. يقول «فوانوا»: «لما وقع المولى عبد الحفيظ معاهدة الحماية في 30 مارس 1912، لم يفعل ذلك إلا على مضض، لأن المغاربة كانوا معارضين مبدأ الحماية معارضة شديدة، فأدى ذلك إلى نشوب إضرابات عنيفة، بدأت بتمرد طوابير الجيش في قصبة الشراردة، وذلك في منتصف أبريل، ثم ثارت الجماهير ضد الفرنسيين المقيمين في فاس فتعرض عدد من الفرنسيين لميتة شنيعة، واجتزت رؤوس أربعة منهم في مقدمتهم القبطان «شاردوني». ورفعت على العصي، فحاول الجيش الفرنسي الاستيلاء على الموقف باستعمال المشاة، لكن الحالة اضطرته إلى قصف فاس بالمدفعية، واستمرت الحالة في حرب ثلاثة أيام. من 17 أبريل إلى 19 منه، ولم يفت في عضد المتمردين، إلا ما رفع من أعلام فرنسا على أبواب وسطوح دور أهل فاس، يوم 20 أبريل. لكن كشف أن قتلى الفرنسيين بلغوا 65، منهم 13 ضابطا، و587 جنديا و15 ضابطا جريحا، وأعلنت حالة الحصار إلى أن وصلت قوات الجنرال مينيي بسلاحها وقوتها وعتادها».
لكن من الذي كان وراء تلك الحملة المرعبة؟ لقد كان وراءها إلى جانب «الأحرار»، كما كان ينظر إليهم أهل البلد الذين تصلهم أخبار قتل المغاربة في الشوارع كل صباح، من رجال القبائل المحيطة بفاس، ومنهم السبعيون أهل موزار ودرقاوة فاس وما حولها، والذين كان ينشطهم أتباع العالم أحمد بن الحسن السبعي، كما تؤكد ذلك الوثائق الفرنسية نفسها.

مرتزقة جزائريون تونسيون وسينغاليون استعان بهم الجيش لإخضاع الرافضين للتوقيع
ما زاد من احتقان الأوضاع بالمغرب أن الرد الفرنسي كان موجعا، خصوصا إذا علمنا أن الشارع المغربي لم يكن يعلم أبدا ماذا يقع في الكواليس المغربية. فبعض المصادر المحلية تتهم المولى عبد الحفيظ مباشرة بتسهيل توقيع معاهدة الحماية، مقابل تمكينه من امتيازات تحافظ على بقائه في الحكم، في مقابل مراجع فرنسية أخرى تتهمه بالموالاة للثوار واللعب على الحبلين، في حين تبقى مصادر أخرى متأرجحة بين التركيز على الضغط الفرنسي، والرد الدموي الذي قام به الجنرالات ضد المغاربة الذين كانوا شبه مجردين من السلاح، وبين البحث عن مشروعية لتبرير التدخل العسكري في المغرب.
لكن الأكيد أن المولى عبد الحفيظ لم يكن محظوظا للحفاظ على علاقاته كلها، سواء بأتباعه وشعبه، أو مع الفرنسيين أنفسهم، بالرغم من الأحاديث الكثيرة التي دارت، ووثقت أيضا، حول إصرار المولى عبد الحفيظ على المفاوضة مع الفرنسيين لضمان استمراره حاكما للمغرب، حتى بعد توقيع معاهدة الحماية التي فتحت المغرب على مصراعيه، برا وبحرا، أمام المدفعيات الفرنسية.
ولأن المقاومة المغربية خلال أبريل وماي من سنة 1912 دائما، كانت قوية وعنيفة، خصوصا في المناطق المجاورة للأطلس، فإن فرنسا استعانت بقوات إضافية لإخضاع المغرب. وستكون الصدمة كبيرة عندما تعلمون أن هؤلاء الذين استعانت بهم فرنسا لإخضاع المغرب وإخماد غضب الشارع، لم يكونوا إلا جزائريين وتونسيين، جاء بهم الجيش الفرنسي عبر الحدود وأطلقهم من الواجهة البحرية ليصلوا إلى فاس، محملين بالأسلحة، ويخوضوا معارك في جبهات كثيرة لفرض القوة الفرنسية على المغرب.
هذا الأمر خلف استياء كبيرا، خصوصا في أوساط العلماء المغاربة والعارفين، سيما من المحميين، إذ لم يتقبلوا أن تستعين فرسا بأبناء عمومة المغاربة لضربهم في عقر دارهم وإجبارهم على قبول الأمر الواقع.
لم يكن لإحضار مجندين من السينغال لضرب المغاربة وارتكاب مجازر دموية في حق المواطنين العزّل وقع، بالقدر الذي تسببت فيه فرنسا بإحضارها لجزائريين وتونسيين، لخوض معارك دموية مع الثوار المغاربة.
في فاس كانت الأوضاع لا تهدأ إلا لتثور، وهو ما كان يعني أن أيام المولى عبد الحفيظ كانت معدودة، حتى لو أرادت فرنسا الإبقاء عليه. لأن التقارير الرسمية الفرنسية سنة 1912 كانت تقول إن هناك من الأعيان من يقبلون بالتعامل مع فرنسا كطرف للمفاوضة لإيقاف المعارك، لكن الشرط كان هو أن يتنحى المولى عبد الحفيظ عن الحكم نهائيا، وهو الاتجاه الذي سارت عليه الأمور، مباشرة بعد استنتاج فرنسا أن المولى عبد الحفيظ لم يعد مرغوبا فيه كحاكم للمغرب، وهكذا تم ترتيب مغادرته بعد أن فاوض شخصيا على وضعه بعد مغادرته للقصر، وقُدمت إليه ضمانات حول سلامته مستقبلا، لينتقل إلى طنجة ومنها إلى فرنسا، ويترك المغرب ليفاوض فرنسا من جديد، لكن بنفس الشروط الفرنسية!

مذابح أرعبت الناس وأجبرتهم على قبول واقع المعاهدة

لم يكن الأمر سهلا، لكنه لم يكن من الصعوبة بالقدر الذي رسمه البعض، خصوصا في الأوراق الرسمية الفرنسية، لأن المغرب تعرض لخيانات من الداخل، أدت إلى ترسيخ الوجود الفرنسي. بعض الأسماء، خصوصا من عالم السلطة والمخزن، بدل أن يضغطوا من مواقعهم على فرنسا، لتتنازل على الأقل، عن معاهدة الحماية التي أبرمتها مع الحاكم السابق للمغرب، سارعوا إلى رسم أماكن السلطة الجديدة، وفازوا بمواقع مهمة تضمن لهم الاستمرارية في مناصبهم السيادية، وربط العلاقات مع الفرنسيين أكثر من إخوانهم، وهكذا كانت مهمة المولى يوسف صعبة للغاية بمجرد وصوله إلى الحكم.
لم تعد فاس مغرية كما كانت في السابق، فقد كانت فرنسا تجر الجميع في اتجاه الرباط والدار البيضاء، حيث الواجهة البحرية التي تقرب فرنسا أكثر نحو بداية تشييد مصالحها الاقتصادية والعسكرية أيضا.
في يونيو 1912 والأشهر التي جاءت بعده، كانت فرنسا ترخي الحبل لتشده من جديد، فقبل مغادرة المولى عبد الحفيظ للعرش نهائيا، كانت فرنسا تواجه الثوار بكثير من الحزم، وكانت تعلم جيدا أن الذين يحركون الثورة ليسوا إلا نخبة من الأعيان والأغنياء الذين كانوا يرفضون توقيع معاهدة الحماية، ويستجيبون من جهة أخرى للمطالب الشعبية لمريديهم.. لأن السواء الأعظم من المغاربة سمعوا بأمر المجازر التي ارتكبتها فرنسا في فاس ونواحيها، وأرادوا الانتقام لذويهم هناك، وهو ما جعل نخبة الوجاهات والزعامات، يدعمون الثورات المسلحة، لكنها لم تدم طويلا، لأن الجيوش البشرية التي استعملت فيها، لم تكن تتوفر على أي خبرة عسكرية أو تكوين في استعمال السلاح.. هذا السلاح الذي لم يكن إلا عبارة عن بنادق متهالكة وسيوف تقليدية، لكنها نجحت عموما في ضرب الوجود الفرنسي في المغرب، وإزعاجه على الأقل.
بمغادرة المولى عبد الحفيظ، هدأ غضب الأعيان على الأقل، لكن غضب الشارع لم يهدأ، خصوصا وأن بعض الثوار كانوا عازمين على الانتقام مما ارتكبته فرنسا في حق سكان المناطق التي كانت في خط المواجهة بين القوات الفرنسية وبين السكان.
لكن الغريب أن اتفاقية 1912 بقيت سارية المفعول حتى بعد مغادرة المولى عبد الحفيظ، ليس للعرش فقط، وإنما للمغرب كله. وما جرى في الكواليس، التي لا يحب الكثيرون الحديث عنها، أن بعض أصحاب المصالح من إخواننا المغاربة، انتظروا إلى أن انتقل العرش إلى وريثه الشرعي، وبدل أن يعملوا معه على فرض مواقف جديدة على فرنسا تحفظ للمغاربة ماء وجههم على الأقل، تحولوا إلى الضفة الفرنسية بعد أن تلقوا وعودا من فرنسا، وهكذا ضغطوا بكامل ثقلهم الاعتباري في المغرب، لحفظ بنود معاهدة الحماية، مقابل هدنة قصيرة، ضيعت على المغرب فرصة كسر شوكة فرنسا، أو تجنب ألمها على الأقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى