الرأي

11 شتنبر في زمن «داعش».. ما تزال أبراج أخرى تتساقط

في الذكرى الـ14 لهجمات 11 شتنبر، التي تظلّ العملية الإرهابية الأشهر كونياً (بعد الهجمة النووية الأمريكية على هيروشيما وناغازاكي، بالطبع)؛ تبدو الحكمة الشائعة، اليوم، مختزَلة في هذه المعادلة: سنة 2011 كانت «القاعدة» هي البؤرة القصوى للتهديد الإرهابي، وظلّت هكذا عملياً حتى بعد اغتيال أسامة بن لادن، أواسط 2011؛ ثمّ جاءت «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، أو «داعش» في التسمية الأشهر، لتُبعد «القاعدة» عن الأضواء وعناوين الصحف الكبرى. وليس أدلّ على هذا من رسالة أيمن الظواهري الأخيرة: «لا نعترف بهذه الخلافة ولا نراها خلافة على منهاج النبوة بل هي إمارة استيلاء بلا شورى ولا يلزم المسلمين مبايعتها، ولا نرى أبا بكر البغدادي أهلا للخلافة»؛ لأنّ الأخير أنشأ دولته اعتماداً على «القوّة والتفجيرات والسيارات المفخخة عوضا عن ترغيب الناس وتخييرهم»؛ و«عندما كانت غزّة تحترق تحت القنابل الإسرائيلية، أبو بكر البغدادي لم يقدّم أي دعم حتى ولو بكلمة»…
وهي حكمة صائبة، في حدودها الدنيا بالطبع، لأنها إنما تعيد توصيف مشهد قائم على الأرض الفعلية، دلائله تتعاقب كلّ يوم؛ حتى ليمكن القول، مع حفظ الفروقات في التشبيه، أنّ إسقاط أعمدة المعابد الأثرية في العراق وسوريا، بمزاميل «داعش»، ليس سوى استعادات لسقوط برجَيْ نيويورك، بطائرات «القاعدة». وإلى خلاصات هذه الحكمة يمكن للمرء أن يضيف عناصر أخرى كثيرة، طرأت بسبب تراجع «القاعدة» إلى الصفوف الخلفية، وتقدّم «داعش» إلى الواجهة؛ بل لعلّ الأصحّ القول إنّ هذه العناصر باتت المنابع الأهمّ لأخطار الإرهاب التي تتهدد الغرب والولايات المتحدة في الآونة الراهنة. ثمة ازدياد في حجم قوى الإرهاب، وتنوّع في بعض أنماط الإرهاب، من جهة؛ وثمة، من جهة ثانية، تقهقر في بعض الأنماط الأخرى، سيبلغ درجة المحاق أحياناً؛ ولكن ثمة، في الحالتين، طراز عجيب من تكامل الأخطار، خاصة حين تصبح عابرة للحدود، فيستوي الغرب فيها مع الشرق، وتنقلب تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والإنترنت إلى أسلحة ذوات حدود متعددة التأثير، أبسطها انقلاب السحر على الساحر. وإذا كانت عشرات الدول، وبينها حفنة مصنّفة في خانة «العظمى»، تقصف «داعش» في العراق وسوريا، منذ أشهر، دون كبير جدوى؛ فإنّ خلايا الإرهاب النائمة في الغرب يمكن إفاقتها في كلّ حين، وربما في أمكنة شتى، من حيث لا تحتسب أجهزة مكافحة الإرهاب. صحيح، أيضاً، أن طراز هجمات 11/9 قد انطوى، أو لعله طُوي عملياً وتقنياً؛ إلا أنّ الصحيح الموازي يفيد باحتمال سقوط «أبراج» أخرى عديدة، قد لا تتشابه مع برجَيْ التجارة في شيء، ما خلا الرمز والتأثير الكوني الهائل! حول هذا المآل، يرى توم إنغلهارت، في مقال نشرته مجلة The Natin الأمريكية قبل أيام، أنّ ما سُميت بـ»الحرب على الإرهاب» قد أنجزت كلّ ما حلم أسامة بن لادن بإنجازه: «14 عاماً من الحروب، والتدخلات، والاغتيالات، والتعذيب، والخطف، والمواقع السوداء، ونموّ دولة الأمن القومي الأمريكي بمعدّلات هائلة، وانتشار التشدد الإسلامي عبر معظم الشرق الأوسط الكبير وأفريقيا. 14 عاماً من الإنفاق الخرافي، وحملات القصف الجوي، والسياسة الخارجية التي تمنح الأولوية للخيار العسكري وتنتهي إلى إخفاقات متكررة، وخيبات أو كوارث. 14 عاماً من ثقافة الخوف في أمريكا، والإنذارات والتحذيرات بلا نهاية، فضلاً عن ندرة التنبؤ الصحيح بالهجمات الإرهابية. 14 عاماً من دفن الديمقراطية الأمريكية (أو، بالأحرى، إعادة إنتاجها كملعب للمليارديرات ومصدر للفرجة والتسلية، ولكن ليس الحكم)… لائحة إنغلهارت تطول وتطول، فتشمل صعود عقيدة الأمن، وفرض السرّية على الوثائق، وتشديد العقاب بحقّ منتهكي الأسرار، وإبقاء الأمريكي في العتمة بذريعة حمايته، وتحويل جمع المعلومات العسكرية إلى مشاريع ربح مالي، وتضخّم عمالة البنتاغون والمخابرات المركزية وأجهزة الأمن القومي الأخرى، وخروج أخلاقيات الرقابة على الناس (من بعض زعماء الدول الكبرى الحليفة، إلى بعض أصغر زعماء العشائر في أقاصي المعمورة!) عن كلّ معيار مقبول. باختصار: 14 سنة من انقلاب اللامعقول واللامحتمَل، إلى معقول ومحتمَل؛ رغم أنّ إنغلهارت لا يشير إلى ذروة المآل: أنّ الحصيلة لا تنتهي ضدّ تعاظم الإرهاب الكوني، بل تصبّ الزيوت على نيرانه المتأججة، فيتخلّق تنظيم «داعش» من باطن الحرب على «القاعدة»، فلا الأخيرة انقرضت ولا الأولى حُوربت في المهد! وفي واحدة من أطرف أمثولات رواية «الأمير الصغير»، للأديب والطيّار الفرنسي الراحل أنطوان دو سانت ـ إكزوبيري، يطلب الأمير ـ القادم من كوكب آخر، للإيضاح ـ أن يرسم له الراوي صورة خروف، وبعد عدد من المحاولات الفاشلة يقرّر الأخير رسم صندوق مغلق، ويقول للأمير: الخروف في داخل الصندوق! وفي مناسبة هذه الذكرى الـ14، ليس أصلح من هذه الحكاية للتعليق على الإجابة الطريفة التي خلص إليها «المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا»، الأمريكي، حول أسباب انهيار البرجَيْن على ذلك النحو الدراماتيكي السريع: «التفسير موجود في حاسوبنا»! وفي الموقع الإلكتروني الممتاز «حقيقة 11/9»، يكتب كريغ رايان: «هيئة 11/9 [التي تولّت التحقيق رسمياً] قالت لنا إنّ عمليات 11/9 نجحت في نهاية المطاف بسبب قصور المخيّلة. لكنّ المعهد الوطني للمقاييس والتكنولوجيا لن يتعرّض لتهمة كهذه اليوم، لأنّ لا شيء في تقريره سوى المخيّلة»!
واليوم، لا يلوح أنّ أحداً ممّن استطابوا تأثيم المسلمين يوم 11/9/2001 قد تعلّم أيّ درس مغاير طيلة السنوات الـ14… غير العجاف البتة، والحقّ يُقال! تتصاعد، ما تزال، أصوات تأثيم المسلمين كافة (والعرب على رأسهم بالطبع)؛ وتتجاوز خطاب المستشرق والأكاديمي والأنثروبولوجي في الكتب والجامعات، فيردّدها الجنرالات والساسة والمعلّقون، وتجري على ألسنة البشر في الشوارع. وما تزال المخيّلة السياسية الأمريكية الجَمْعية، وجناحها الليبرالي خاصة، شديدة الولع بالوصف وليس بالوصفة، وبتشخيص واقعة الشرّ المنفردة وليس الواقع الشرير العريض، وباللجوء إلى استثناء القاعدة وليس الاعتراف بوجود استثناء على هيأة قاعدة ثانية.
جدّ قليلة، بل نادرة تماماً، تلك الأصوات التي سألت وتسأل: ألسنا نحن، أمريكا ما قبل سقوط جدار برلين، الذين هندسنا صيغة «الأفغان العرب»، ثم لم نجد بدّاً من إطلاقهم في أربع رياح الأرض، حين تهدّم الجدار وبدا أنّ الحرب الباردة وضعت أوزارها؟ ألسنا نحن الذين وفّرنا ونوفّر لهم ميادين «حروب الله»، في البوسنة وبلاد الشاشان والفيلبين وكوسوفو وكينيا وتنزانيا ونيجيريا، ثمّ الصومال وفلسطين المحتلة والسعودية والكويت ومصر والجزائر ولبنان، ثمّ العراق وسوريا وليبيا وصحراء سيناء…؟ وأيّ خيارات، سياسية وأمنية، جعلتهم يتوغلون في قطارات مدريد وأنفاق لندن وشوارع باريس، مدججين بالرشاشات والعبوات الناسفة؟ ألسنا، من جديد، نضرس حصرم «عاصفة الصحراء» وفلسفة التدخل عن طريق التعاقد بالتراضي بين الحكومات المحلية الفاسدة المستبدة، والشرطي الكوني الأوّل؟ ألسنا، بالتكرار العتيق ذاته، أمام التنميطات العتيقة ذاتها عن «الإرهاب» والإرهابيين، و«الأصولية» والأصوليين، حيث الوصف أهمّ من الوصفة؟ وإلى أن تتوفر آذان أمريكية كافية، تحسن الإصغاء إلى دروس هذه السرديات المختلفة، والمخالفة، والتي تنطق بخطاب نقيض حول حقائق ما جرى، ليس تطويراً لنظرية مؤامرة ما، بل تأسيساً لخلاصات عالية المصداقية حول لجوء السلطات الأمريكية إلى طمس عشرات الحقائق الدامغة؛ فإنّ صندوق 11/9 سوف يظلّ مغلقاً على غالبية أسراره الكبرى، حتى أمد طويل… طويل. الأمر الذي لن يحول دون سقوط المزيد من «الأبراج»، على الأرض كما في المخيّلة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى