الرئيسيةبانوراما

آرثور رامبو ورسائل عدن

إعداد وتقديم: سعيد الباز

ما الذي يجعل شاعرا بحجم آرثور رامبو (1854-1891) Arthur Rimbaud أحدث ثورة هائلة في الشعر العالمي وعمره لم يتجاوز العشرين سنة، أن يتخلى عن الشعر بعد ذلك وبصفة نهائية، وأن يحزم حقائبه باتجاه الشرق تاجرا للبن أو البخور والسلاح أحيانا. مغامرات خطيرة قادته إلى الحبشة ونواحيها، لكن ظلت مدينة عدن اليمنية نقطة الانطلاق والعودة، وفيها حرر العديد من الرسائل إلى أهله وأصدقائه في فرنسا.
في هذه الرسائل لم يكن رامبو يتحدث عن الشعر أبدا، كان هوسه منصبا على جمع المال من أجل تأمين حياته المستقبلية، مع قناعة أساسية بأنّ محاولته تلك كانت يائسة وأنّ مصيره سيكون مأساويا أكثر من حياته نفسها، أو كما قال: «تعبت كثيرا من الجري في هذا العالم، دون جدوى».
مات رامبو بسبب قدمه التي تورمت إلى حدّ أصبح من الضرورة بترها، لكن الورم سرى في جسده. وكان الشاعر فرلين محقا في قوله: «لقد متّ الميتة التي أردتها. زنجيا أبيض، رائع التمدن».

مقتطفات من رسائل عدن

أصدقائي الأعزّاء،
رحلت من قبرص وفي جيبي 400 فرنك منذ ما يقرب على الشهرين، إثر مشاجرات مع أمين الصندوق العام والمهندس لو بقيت لوجدت نفسي في مكانة جيدة خلال شهور، غير أنني أستطيع العودة إليها. بحثت عن عمل في سائر مرافئ البحر الأحمر، في جدة وسواكن ومصوع والحديدة إلخ… وصلت إلى هنا بعد أن سعيت لإيجاد عمل في الحبشة. كنت مريضا عند الوصول، أنا مستخدم عند تاجر للقهوة، حيث لا أملك بعد سوى ستة فرنكات سأنطلق صوب زنجبار، حين تتوفر في حوزتي بضع مئات من الفرنكات.
عدن غشت 1880

أصدقائي الأعزّاء،
أعتقد أنّي أرسلت إليكم رسالة مؤخرا، أحكي فيها الطريقة التي اضطررت فيها ترك قبرص بأسف، والكيفية التي وصلت فيها إلى هنا بعد اجتياز البحر الأحمر. أعمل هنا في مكتب تاجر للقهوة. عميل الشركة جنرال متقاعد. الأعمال التجارية مقبولة، وسنعمل على تحسينها. لا أكسب كثيرا لا أكثر من ستة فرنكات لليوم الواحد. لكن فيما لو بقيت هنا، ويجب أن أبقى فيه لأنه مكان بعيد عن كلّ شيء نضطر للبقاء فيه عدة شهور للفوز ببضع مئات من الفرنكات قبل الرحيل إثر حاجة ما. لو بقيت أعتقد بأنني سأكون موضع ثقتهم، وأتسلم وكالة الشركة في مدينة أخرى، ويمكنني بهذه الطريقة الفوز بشيء ما وفي أسرع وقت.
عدن 25 غشت 1880

… ما زلت مستخدما في الوكالة نفسها، وأكدّ وأتعب مثل الحمار في بلد لا أعرف له غير الكره القاطع في نفسي. أقوم بوساطات عديدة للخروج من هنا، وللحصول على عمل آخر أكثر ترويحا للنفس. أرجو نهاية ما لإقامتي هنا قبل أن يفوتني الأجل وأصبح معتوها تماما. إذا كنت لا أراسلكم كثيرا، فذلك لأنني تعب جدا إضافة إلى عدم وجود أخبار عندي وعندكم.
عدن 10 ماي 1882

… أنا في صحة جيدة في هذا البلد القذر. استخدموني من جديد، لسنة قادمة، حتى نهاية 1885. ولكن من الممكن أن يجري إيقاف هذه الأعمال التجارية، مرة أخرى، قبل نهاية العقد. ساءت أحوال هذه البلدان منذ أحداث مصر. عملي هنا يقوم على شراء القهوة… وشراء أمور أخرى الصمغ، البخور، ريش النعام، العاج، الجلود المجففة إلخ… لا أرسل إليكم صورتي الفوتوغرافية، لأنني أتجنب بعناية المصاريف غير المجدية. على أية حال ما زلت سيّئ الهندام، لا يمكننا ارتداء غير الألبسة القطنية الحقيقية هنا، والناس الذين أمضوا عدة سنوات هنا، ما عاد يمكنهم تمضية الشتاء في أوروبا، سيقضون نحبهم لاحقا بنزلة صدرية. إذا عدت، فلن يكون ذلك إلا في الصيف، وسأكون مضطرا للنزول من جديد صوب المتوسط في الشتاء على الأقل. لا تأملوا في سائر الأحوال بأن يصير مزاجي أقلّ تشردا، بل على العكس من ذلك. لو كان في مقدوري أن أسافر دون أن أكون مجبرا على الإقامة للعمل ولكسب لقمة العيش، لما كان يراني أحد شهرين في المكان نفسه. العالم كبير جدا ومليء بالأماكن الرائعة التي تحتاج إلى أكثر من ألف رجل لزيارتها كلّها. ولكن لا أريد، من جهة أخرى، أن أتصعلك في البؤس. أريد أن يكون في حوزتي بضعة آلاف من الفرنكات من العائدات، وأن أقضي السنة في مكانين أو ثلاثة، أعيش حياة متواضعة، عاقدا بعض العمليات التجارية لتغطية مصاريفي. ولكن أن أعيش في المكان نفسه فإنني أجد هذا الأمر بائسا جدا. ختاما، إنّنا نتجه، في الأرجح، إلى حيث لا نريد، ونعمل ما لا نرغب بعمله، ونعيش ونموت بطريقة مختلفة دائما عن الطريقة التي رغبناها، دون أمل في التعويض من أيّ نوع كان. أمّا عن نسخ القرآن، فإنني استلمتها منذ وقت بعيد، منذ عام على وجه التحديد. أمّا عن الكتب الأخرى، فقد جرى بيعها فعلا، عندي رغبة لإرسال بعض الكتب إليكم، لكنني أضعت أموالا كثيرة في هذا الأمر.
عدن 15 يناير 1885

… لا عمل هنا راهنا، فالبيوتات الكبرى التي كانت تزوّد الوكالات التجارية هنا ببضائعها، أفلست كلّها في مرسيليا. من جهة أخرى، الحياة هنا باهظة الثمن لمن ليس مستخدما، والإقامة مضجرة بكيفية ظالمة، خاصة من بداية الصيف. وأنتم تعلمون بأنّ الصيف هنا هو الأكثر حرارة في العالم أجمع. لا أعرف أبدا أين يمكنني أن أكون بعد شهر. في حوزتي مبلغ يتراوح بين اثني عشر ألف فرنك وثلاثة عشر ألف فرنك، وبما أنّنا لا نستطيع أن نعهد بشيء لأحد هنا. فإننا مجبرون على جرجرة أموالنا خلفنا ومراقبتها دوما. وهذا المال الذي يمكنني بواسطته أن أضمن لنفسي دخلا متواضعا وكافيا لإعالتي دون أن أضطر إلى العمل أبدا. لا يجلب لي شيئا سوى المضايقات الدائمة.
أيّة حياة بائسة أسوقها تحت هذه المناخات المجنونة، وفي هذه الظروف الحمقاء. كان يمكنني، بما ادخرت من أموال، أن أضمن دخلا متواضعا وأكيدا. وأن أعرف الراحة قليلا، بعد سنين طويلة من العذابات. لولا أنّه، على العكس من ذلك، لا يمكنني أن أتوقف عن العمل، ولو ليوم واحد، ولا أن أسعد بما جنيته من أرباح. لا تتسلم الخزينة هنا إلّا الأمانات، ودون فوائد مالية وبيوتات التجارة ليست قوية أبدا. لا أستطيع أن أعطيكم عنوانا لي جوابا على طلبكم، لأنني أجهل شخصيا، وبصفة تامة، المكان الذي سأجد نفسي منقادا إليه قريبا، والطرق التي سأسلكها، ووجهة السير، وسبب ذلك وكيفيته.
قد يلجأ الإنجليز إلى احتلال هرر قريبا، وقد أعود إليها. يمكنني القيام بتجارة بسيطة هنا، ويمكنني ربما شراء حدائق ومزارع فيها، والسعي للعيش بهذه الطريقة. لأنّ مناخات هرر والحبشة الرائعة، أفضل من مناخات أوروبا، والحياة فيها غير مكلفة أبدا، والتغذية جيدة والهواء ناعم. بينما توهن الإقامة في شواطئ البحر الأحمر أعصاب الناس الأقوياء، وسنة واحدة من الشيخوخة هنا تساوي أربع سنوات هناك. حياتي هنا، كابوس حقيقي إذن. لا تتصوروا أبدا أنني أقضي حياة ممتعة، على العكس من ذلك أعتقد دائما أنّه يستحيل العيش بمشقة أكثر مني.
إذا استعدنا العمل هنا في وقت قريب، فهذا يعني أنّ الأمور تتحسن أكثر فأكثر: لن أبدد أموالي في مخاطر المغامرات. في هذه الحالة سأبقى أطول فترة ممكنة في هذا الثقب الشنيع بعدن. لأنّ المشاريع الشخصية خطرة جدا في أفريقيا، في الجهة الأخرى.
اعذروني لسردي متاعبي عليكم. لكنني أتحقق من أنني سأبلغ الثلاثين من عمري (منتصف حياتي)، ومن أنني تعبت كثيرا من الجري في هذا العالم، دون جدوى.
عدن 5 ماي 1884

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى