الرأي

أنقرة وواشنطن وما بينهما ضباب

مدى الفاتح

مقالات ذات صلة

مع بداية العام الجديد كانت حالة من التفاؤل تعم بين المهتمين بموضوع العلاقات التركية الأمريكية، فوفقا لعدد من الإشارات التي اعتبرت إيجابية وبناءة، فإن العلاقات بين البلدين كانت قد عبرت مرحلة التوتر إلى مرحلة التنسيق والتضامن الجاد، وهو ما يعني أن مياها كثيرة كان ينتظر أن تمر من تحت الجسر.
اعتمد هؤلاء المتفائلون بالدرجة الأولى على خبر إعلان الأمريكيين انسحابهم من المناطق التي تسيطر عليها المجموعات الكردية على الحدود السورية التركية، وتم الاحتفاء بهذا الخبر وتضخيم دلالاته المتوهمة، التي كان من بينها التخلي عن الحلفاء الأكراد، وعلى رأسهم المجموعات المعارضة لتركيا والمهددة لها، وطفق البعض يخلقون تصورات وسيناريوهات حول ملء الفراغ وتصور التغيير في شكل العمليات على الأرض، وغيرها مما كان يبدو بالنسبة إلينا سابقا لأوانه لثلاثة أسباب رئيسة:
*أول هذه الأسباب هو أن إعلان الانسحاب الأمريكي تم بشكل غامض، فلا هو محدد المدة ولا الكيفية، ليبدو الأمر وكأنه إعلان مفتوح على المكان والزمان وقابل للاستثناء والتراجع، ما يجعل البناء عليه أمرا غير موضوعي.
*السبب الثاني هو أن الولايات المتحدة لم تعلن أبدا أن هذه الخطوة مقصود منها تسليم هذه المناطق للسيطرة التركية، أو التخلي عن حلفائها من المجموعات الكردية المسلحة، بل على العكس لم تلبث التصريحات الأمريكية أن أكدت على أن واشنطن لن تترك من قاتل معها تنظيم «الدولة» وحدهم في الميدان، أو في مواجهة الأتراك، وهي التصريحات التي تصاعدت حدتها خلال الأسبوعين الماضيين، ما أدى إلى أن يستعيد الجانب التركي بدوره لغته المتحدية، التي تؤكد على جميع المستويات أن موضوع الأمن التركي هو خط أحمر لا مجال للتهاون فيه أو التفاوض عليه.
*أما السبب الثالث فهو سبب عام ينطلق من صعوبة البناء على أي إجراء أو إعلان أمريكي في الوقت الحالي، حيث تبدو الدولة الكبرى في هذه المرحلة من التاريخ برؤوس متعددة، فما يعلنه وزير الخارجية قد ينقضه الرئيس، وما يمكن أن تصل إليه من تفاهمات معلنة مع وزير الدفاع، أو مستشار الأمن القومي قد يتم الالتفاف عليه من قبل الكونغرس أو البنتاغون أو غيرها من المؤسسات، وهي حالة فريدة من نوعها في التاريخ الأمريكي الحديث، فقد حدث أن كانت الولايات المتحدة تقابل العالم بأصوات مختلفة ومتباينة، كنوع من الدهاء السياسي، ولكن كان بين تلك الأصوات، على اختلافها وتباينها الظاهر، كثير من التنسيق الخفي، على عكس ما هو الحال حاليا.
لتوضيح حالة الالتباس التي نقصدها، يمكن التمثيل باختيار الولايات المتحدة لمبعوثها إلى سوريا، الدبلوماسي المهتم بشؤون المنطقة جيمس جيفري ليكون مبعوثها أيضا إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «الدولة»، الذي تشكل في شتنبر 2014. أعلنت الإدارة الأمريكية أن جيمس جيفري سيحل محل المبعوث السابق بريت ماكغورك، الذي قدم استقالته على خلفية قرار الانسحاب من سوريا. المفارقة هي أن المبعوث الجديد كان من المعارضين، هو الآخر، لقرار الانسحاب. هنا لن يجد أحد إجابة مقنعة عن السؤال البديهي الذي يفرض نفسه وهو: لماذا يتم اختيار شخص غير متحمس لقرار الانسحاب ليشرف على تنفيذه؟ بشكل عام يمكن القول إن العلاقات التركية الأمريكية، تراجعت تراجعا كبيرا خلال العامين الماضيين، ما وصل درجة التشكيك في الحلف الأمني القائم بين البلدين تحت مظلة الناتو، وهو ما دفع تركيا إلى البحث عن بدائل وخيارات أخرى عبر شراكة مع أطراف جديدة، كان من أبرزها روسيا التي تم الاتفاق معها على شراء منظومتها الدفاعية بالغة التطور.S400 كان لهذا التوجه غير المسبوق مخاطر ومزالق كثيرة، فبخلاف تعميق الأزمة بين الشركاء، كان لمثل هذه النقلة أن تقود إلى تعقيدات تقنية غير مأمونة العواقب داخل الجيش التركي غربي التوجه والتصنيع. كانت الصورة قاتمة، ولوهلة بدا الأمر وكأننا بصدد الدخول في مرحلة صراع مفتوح بين جانبين ضمهما على مر العقود تحالف وثيق. الغريب أن ذلك التراجع في العلاقات كان يزداد رغم التيقن من الأهمية الاستراتيجية التي تتميز بها تركيا، حتى أن الرواية التي تحكي عن مؤامرة غربية تستهدف الأخيرة وتحاول إغراقها في أزمات اقتصادية وتعقيدات سياسية، وجدت رواجا كبيرا وشيوعا داخل تركيا وخارجها، حتى ذهب البعض إلى اتهام الغرب، والولايات المتحدة خاصة، بالمشاركة في إسقاط البلاد في دائرة من الفوضى عبر بث كثير من الدعاية، وعبر تقديم دعم سياسي وإعلامي لمحاولة الانقلاب العسكري.
وبالإضافة إلى موضوع الدعم الأمريكي المعلن والمفتوح للمجموعات الكردية المقاتلة، فإن مساعي الحصول على صفقة S400 كانت تمثل القمة في مثلث الأفق المسدود بين أنقرة وحلفائها الغربيين الذين كانوا، في ظل انعدام الثقة والتشكيك، يضنون عليها بأي بديل عسكري، كصواريخ الباتريوت، ما جعل الأمر يبدو وكأنه لا مبالاة سياسية وعسكرية بكل ما تتعرض إليه أنقرة الحليفة من تهديدات، وهو ما يتعارض مع المبادئ الأساسية للحلف، الذي يجب أن تواجه دوله تحدياتها الأمنية بقلب رجل واحد.
في الوقت ذاته فإن الجمهورية التركية كانت تعمل على تعزيز مكانتها الجيوسياسية بشكل يجعلها تبرز، رغم أنف الكارهين، كلاعب مؤثر لا يستهان به، سيما على صعيد ما يسمى منطقة الشرق الأوسط، التي استطاعت تركيا أن تخلق فيها وعبرها تدخلات بناءة عبر عدد من العمليات السياسية والعسكرية، التي استلمت فيها زمام المبادرة، وإن كانت تدخل في كثير من الأحيان في شراكة مع الولايات المتحدة نفسها، أو مع لاعبين محليين آخرين (إدلب، غصن الزيتون، شرق وغرب الفرات وغيرها).
من المهم القول إن الخلافات بين الجانبين الأمريكي والتركي، بل الغربي بشكل عام والتركي، تعود إلى ما هو أبعد بكثير من تطورات العامين الأخيرين، فقد ظلت هناك اختلافات في وجهات النظر حول كثير من النقاط، خاصة طريقة التعاطي مع قضايا المنطقة، ما وصل في بعض الأحيان درجة التصعيد والأزمة الدبلوماسية. الفارق هو أن الأمور كانت في الغالب تحت السيطرة وضمن إطار لا يؤثر بشكل أصولي على جوهر العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين. ما تغير بسبب السياسات المتشددة للرئيس ترامب وفريقه هو أن الأمر تجاوز مرحلة المشادات المعتادة، ليصل حد التهديد بالعقوبات والمقاطعة، وتفعيل إجراءات قاسية ومفاجئة من قبيل رفع الرسوم الجمركية على الحديد والألمنيوم، بل التلويح بما هو أكثر كالحرب الفعلية أو «تدمير تركيا»، ما شكل حالة من الارتباك ليس فقط على صعيد الداخل التركي، الذي تأثر بذلك بشكل لا يمكن إنكاره سياسيا واقتصاديا، ولكن أيضا على صعيد الإقليم، حيث لم يعد معروفا بشكل واضح من هم أعداء الولايات المتحدة ومن هم حلفاؤها.
في الوضع الحالي لا تبدو كلمة «أزمة» هي التوصيف الأكثر تعبيرا عن واقع العلاقة بين البلدين، كما قد لا يكون موضوعيا وصف العلاقة بالجيدة، أو التي تسير على نحو صحيح، بل لعل كلمة «ضباب» هي الأنسب في توصيف الحالة الماثلة الحالية، وهو ضباب لا بد له من الانقشاع لتظهر بعده الأمور على حقيقتها وعندها فقط يمكننا إطلاق أحكام صائبة عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى