الرأي

احتواء الصين

 

 

أحمد مصطفى

 

تتجاوز أهمية القمة الافتراضية بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، ونظيره الصيني شي جين بينغ ما ذكر في الإعلام والتصريحات الرسمية، عما تمت مناقشته من قضايا.

ليس لأنها ليست قضايا مهمة، من مسألة استقلال تايوان ومحاولات الصين ضمها إليها ثانية، كما فعلت روسيا مع شبه جزيرة القرم ولا قضايا التسلح، خاصة الأسلحة النووية، ولا قضايا الفضاء والمشاكل التجارية العالقة بين البلدين.

إنما أهميتها أنها تأتي في وقت تسعى فيه الإدارة الأمريكية الجديدة إلى بناء تحالف غربي، لمواجهة صعود نفوذ الصين، وإلى حد ما روسيا، عالميا. بينما الرئيس الصيني يرسخ زعامته لبلاده، ويعمل على تعزيز موقعها الاقتصادي بإصلاحات داخلية، تعيد سيطرة الدولة على بعض القطاعات التي نمت بأكثر مما قسم الحزب الحاكم لها.

ربما كان أهم ما في القمة، التي استمرت ثلاث ساعات عبر اتصال فيديو، هو ما ذكر أن بايدن قاله لشي، من ألا يجعل المنافسة تتحول إلى صراع.

تلك بالضبط هي استراتيجية الإدارة الديمقراطية برئاسة بايدن، كما هو حال الإدارات الديمقراطية تقليديا في السياسة الخارجية الأمريكية.

فمنذ نهاية الحرب الباردة في الربع الأخير من القرن الماضي، وكل الحديث عن «نظام عالي جديد» لم يرق بعد إلى مستوى الفعل الحقيقي.

وطبيعي أن يكون لسياسة الولايات المتحدة عالميا الدور الرئيسي في تلك «الميوعة» في النظام العالمي، بعدما أصبحت «القوة العظمى» الوحيدة، عقب تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الشرقي، الذي شكل القطب الآخر لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وكانت الثمانينات من القرن الماضي فترة بداية ذلك التحول، واستغلها الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ لتغيير دفة الاقتصاد في البلاد نحو «رأسمالية الدولة»، مع بقاء نظام الحكم التقليدي، وعلى قمته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني.

وكانت تلك بداية الانطلاقة الاقتصادية الصينية، التي أوصلتها الآن إلى وضع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

ويسعى الرئيس الحالي إلى ضبط ما تحقق بثورة دينغ الاقتصادية، ليترك لنفسه وضعا يقارب الزعيمين السابقين، دينغ وماو، في تاريخ الصين الحديث.

على الأرجح، لن تقود سياسة الاحتواء الأمريكية – والغربية عموما – لوقف تلك المسيرة الصينية، حتى وإن أبطأتها قليلا. فقد أثبتت سياسة الاحتواء على مدى العقود الماضية، أنها لا تحقق سوى نتائج متواضعة. حتى ما رأيناه من زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى قارة إفريقيا، مباشرة عقب القمة، وما يتحدث عنه كثيرون من توجه أمريكا للحد من نفوذ الصين في القارة السمراء، ليس إلا مجرد «تفكير بالتمني».

فالنفوذ الصيني في إفريقيا تجذر بالفعل، خاصة وأنه لا يأخذ في الاعتبار كل لغو الحديث الغربي عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية البيئة…

يرى بعض المعلقين أن العالم ربما يتجه الآن نحو «تشكل» نظام جديد، يحل محل فترة ميوعة ما بعد الحرب.

لكن الواقع أنها دورات من المحاولات لا تأتي بالكثير، فلا العالم أصبح «متعدد الأقطاب»، ولا الولايات المتحدة رسخت دورا باعتبارها «القطب الأوحد».

ومشكلة كثير من المحللين أنهم تأثروا كثيرا بتنظيرات، أمثال فرانسيس فوكوياما وسام هنتينغتون.

ومن الصعب الخروج من أسر تلك الأفكار، التي أثبتت الأيام أنه مجرد «لغو حديث».

ويتصور هؤلاء أن بقية دول العالم سيكون عليها أن «تصطف» إما مع الصين وروسيا، أو الولايات المتحدة والغرب.

وهذا تصور أسير تلك التنظيرات الهلامية التي أشرنا إليها، ولا تعني سوى إعادة إنتاج النظام العالمي القديم في نسخة أضعف.

على العكس، ربما يكون توجه احتواء الصين، ومعها روسيا وغيرهما من القوى الأخرى المنافسة للغرب، مقدمة لمزيد من الميوعة وعدم اليقين بشأن تشكل أي نظام عالمي جديد.

ولعل ذلك يزيد من فرص صعود قوى أخرى، إذا قرأت الأمور بشكل صحيح، وكانت تعمل من قبل على بناء قدراتها الذاتية لتعزيز مكانتها إقليميا وعالميا.

ولا يعني ذلك أيضا أن عالما متعدد الأقطاب في طور التشكل، بل ربما يكون بداية لتغيير جذري في النظام العالمي كله بمؤسساته القديمة المهترئة، التي ما زالت قائمة منذ ما بعد الحرب العالمية.

ولا يمكن إغفال حقيقة أن إدارة بايدن أمامها مشاكل داخلية تجعل تركيزها على السياسة الخارجية يتراجع بالتدريج. هذا فضلا عن أن محاولات بناء «تحالف غربي» تصطدم بعقبات كثيرة في ظل تفكك أطر تعاون وتكامل، حكمت العلاقات بين دول الغرب منذ ما بعد الحرب العالمية، من الاتحاد الأوروبي إلى حلف شمال الأطلسي.

مع ذلك، ستظل الصين التحدي الأكبر أمام الإدارة الأمريكية، وسيظل تكاتف الغرب لوقف صعودها، عاملا مثبطا لتطلعات بكين لتعزيز دورها العالمي. ولنتذكر أيضا أن الصين لديها من المشاكل الداخلية، حاليا وما سيبرز مستقبلا مع التعديلات التي يقوم بها الرئيس شي، ما يجعلها تنكفئ على ذاتها إلى حد ما، بقدر ما سيكون على إدارة بايدن مواجهة احتمالات خسارة حزبه، خلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.

نافذة:

ربما يكون توجه احتواء الصين ومعها روسيا وغيرهما من القوى الأخرى المنافسة للغرب مقدمة لمزيد من الميوعة وعدم اليقين بشأن تشكل أي نظام عالمي جديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى