شوف تشوف

الاستعمار والاستحمار

كل تصريحات وقرارات الرئيس الفرنسي محكومة بمنطق التنافس الشرس على كسب الانتخابات الرئاسية وحجز مقعده لولاية ثانية، ولذلك فالتصريحات المثيرة والصادمة حول مواضيع الهجرة والتأشيرات وأعمال العنف التي يتم إلصاقها بالمهاجرين والعرب والمسلمين ستكون هي المهيمنة طيلة الأشهر المتبقية لموعد الاقتراع.
وماكرون ليس له من خيار آخر سوى الصيد في المجال الذي يعتبره اليمين المتطرف مياهه الإقليمية.
والآن يتضح أن المقصود الحقيقي بتقليص عدد التأشيرات ومنعها عن المسؤولين ليس المغرب أو تونس بل هم المسؤولون الجزائريون تحديدا.
ويتضح اليوم أن هناك فرقا واضحا في التعامل المغربي الرسمي مع المسؤولين الفرنسيين عندما يرتكبون أخطاء في حق المغرب وبين التعامل الجزائري الرسمي مع الإساءة الفرنسية. فالمغرب يرد بصرامة ويعلق اتفاقيات التعاون بينما الرئيس الجزائري الذي نال صفعات مهينة من الرئيس الفرنسي فضل أن يحتمي بجملة “لن أجيبه”.
وقد عودنا المسؤولون الجزائريون الخسة والنذالة وقلة العفة كلما تعلق الأمر بالمغرب الذي مد يد العون للمقاومة الجزائرية بينما عندما يتعلق الأمر بفرنسا التي يقولون إنها قتلت منهم خمسة ملايين فإنهم يتخفون في ثيابهم ويتصنعون عدم الاهتمام.
عندما دعا ممثل المغرب الدائم بالأمم المتحدة إلى احترام حق الشعب القبايلي في تقرير مصيره ثارت ثائرة القادة الجزائريين وقطعوا العلاقات مع المغرب، وعندما شكك الرئيس الفرنسي في أصل الأمة الجزائرية برمتها قرروا التزام الصمت ونشر بلاغ سخيف.
ومن سوء حظ حكام الجزائر أن فرحتهم الطفولية بالحكم الذي أصدرته المحكمة الأوربية القاضي بإلغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد لم تدم أكثر من يوم واحد لتنقلب شماتتهم بكاء وعويلا بسبب تصريحات ماكرون التي هاجم فيها الأطروحة الجزائرية حول الاستعمار والمظلومية الجزائرية التي لطالما رافقت هذه الأطروحة منذ الاستقلال.
ماكرون في لقاء جمعه ب18 شابا فرنسياً من أصل جزائري ومن مزدوجي الجنسية، لمناقشة مسألة “مصالحة الشعوب”، انتقد ما أسماه “ريع الذاكرة”، لكون النظام الحاكم في الجزائر، يمارس التضليل بخصوص تاريخ البلد بسبب انتقائيته وهو يتحدث عن الاستعمار. إذ بدل الحديث عن كون الجزائر غير موجودة، لكونها تعرضت لاستعمارين، تركي وفرنسي، فإن هذا النظام يركز فقط على الفرنسي، ويستثمر هذا التحريف للتاريخ لصالحه.
ردة فعل العسكر لم تتأخر، ليثبت مرة أخرى نفس ما قاله ماكرون بخصوص “ريع الذاكرة”، حيث استدعوا سفيرهم في باريس احتجاجا بحجة “المساس غير المقبول بذاكرة الشهداء”. علما أن الأطروحة التي انطلق منها ماكرون تتأسس على تقرير أثار ضجة في يناير الماضي، كتبه المؤرخ “بنيامين ستورا” بعنوان “ذكرى الاستعمار والحرب الجزائرية” وهذه الأطروحة هي أنه “لن يكون هناك ندم أو اعتذار”.
ماكرون المهووس هذه الأيام بالانتخابات اختار مزاحمة اليمين المتطرف والتركيز على ورقة المهاجرين، وعلى رأسهم المغاربيون. لذلك يحاول أن يوظف تقرير بنيامين ستورا في تبرير عدم تقديم الاعتذار. وفي المقابل نجد العسكر في الجزائر، والذين أنهكهم الحراك والتناحر الداخلي على السلطة، اختاروا التركيز على ورقة “العدو الخارجي الذي يتربص بالجزائر”. وهذه الاستراتيجية المبنية على شيطنة الآخر وكراهيته هي نفسها الاستراتيجية التي ينهجها حكام الجزائر ضد المغرب منذ عشرات السنين.
والحقيقة أن ماكرون لم يكن مجانبا للصواب عندما قال بأن الجزائر أنشأت بعد استقلالها عام 1962 “ريعا للذاكرة” كرسه “النظام السياسي العسكري”. حيث تمت كتابة التاريخ الرسمي بناء على نظرية المؤامرة هذه، وكأن تاريخهم بدأ مع الاستعمار الفرنسي أي سنة 1830. مع أن الحقيقة هي أن فرنسا تسلمت هذه الجغرافيا، المسماة “المغرب الأوسط” من الإمبراطورية العثمانية. وهذه الأخيرة تسلمتها هي أيضا من إسبانيا الصليبية بعد حروب سنة 1518. والغريب هنا هو أن الخطاب الرسمي للنظام عن الحكم العثماني للجزائر يتسم بالإيجابية عموما، مع الإصرار من قبل هذا النظام على الحديث عن العثمانيين وليس عن الأتراك، وهذا نقاش تاريخي مستمر إلى الآن، ولا يخلو من إيديولوجيا، كما يعلم الجميع.
فرغم تعرض الفترة العثمانية لنقد المؤرخين بسبب استئثار العنصر العثماني بمقاليد السلطة دون الجزائريين، وبسبب إنزال أبنائهم المولودين من أمّهات جزائرية إلى مرتبة أدنى (الكراغلة)، وهي مرتبة لا تؤهلهم للحكم. مع الإشارة هنا إلى أن كلمة “كراغلة” في اللغة التركية القديمة تعني “ابن العبد”. دون أن ننسى أيضا فرض ضرائب فادحة على الجزائريين وإهمال تعليمهم، وبالرغم من هذا كله لم يجرؤ مؤرخو العسكر على اعتبار العثمانيين استعمارا على غرار الاستعمار الروماني والبيزنطي والإسباني والفرنسي.
ومن يقارن التناول الإعلامي لزيارتي أردوغان سنة 2020، وماكرون قبلها بثلاث سنوات سيرى هذه المفارقة. ففي حين انصب الحديث بشكل رئيسي على الاستعمار خلال زيارة ماكرون، انصب الحديث عن الاستثمارات والمستقبل خلال زيارة أردوغان. وهذه المفارقة هي ما يرفضه الفرنسيون، أي كيف يتسامح الجزائريون مع “مستعمرين” ويحقدون على آخرين؟
من جهة أخرى، ماكرون لا يقول كل الحقائق. بدء من اختياره لمؤرخ من أصول جزائرية يهودية ولد في قسطنطينة وصولا لانتقاء شباب يعتبرون في الخطاب الرسمي الجزائري بأنهم من أبناء “الخونة”، المسمون رسميا ب”الحركيين”، أي الجزائريين الذين تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي وأخذهم في رحاله بعد الاستقلال.
وكل المجازر التي ارتكبها الجيش الفرنسي في حق الشعب الجزائري يعتبرها ماكرون مجرد “ذاكرة” ينبغي التصالح معها، ولكنها لا تستحق الاعتذار.
إن دافع ماكرون الأساسي من حديثه عن تاريخ العلاقة بين الجزائر وفرنسا، ليس هو الذاكرة كما يبدو، بل ليجيب الفرنسيين عن سبب كراهية المغاربيين لفرنسا، في علاقة بالهجمات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا في مناسبات عديدة. أي أن عينه على الداخل الفرنسي أولا وأخيرا. لذلك من الطبيعي أن نسمعه يقول في حديثه مع الشباب الجزائريين الذين استقبلهم بأن “تثقيف الشباب المسلمين حول “الاستعمار والحرب الجزائرية” هو “ضمانة ضرورية” ضد انتشار “الإرهاب الإسلامي”.
لكنه بدل التثقيف بالحقائق، فإنه اختار تثقيفهم بالأكاذيب. وبدل إظهار الندم الفعلي من التاريخ الفرنسي الأسود في الجزائر، فإنه أمر بتقليص نسبة التأشيرات الممنوحة للجزائريين إلى النصف. مستمرا في الدفاع عن أطروحته اليمينية المتطرفة عن “الانفصالية الإسلامية”، والتي يعول عليها كثيرا لربح ولاية رئاسية ثانية.
المشكلة في حوار الطرشان هذا بين ماكرون الذي استولى على خطاب “اليمين المتطرف” من جهة، والعسكر المستمرين في خطاب المظلومية وسياسة تصدير الأزمات، هي أنه يخدم الطرفين معا. فماكرون يعرف بأنه كلما استمر في الإسلاموفوبيا كلما اقترب من ولاية ثانية، بدليل أن أكثر من 80 في المائة من الفرنسيين وافقوه على خطوة تقليص التأشيرات. والعسكر من جهتهم يعرفون بأن الاستجابة لمطالب الحراك ستؤدي حتما لإسقاط نظامهم ومحاكمة رموزه، بما في ذلك الحاكمون حاليا، والذين حولوا جنرالا فاسدا متورطا في مجازر العشرية السوداء في الجزائر اسمه خالد نزار من شخص مطلوب للعدالة ومختفٍ في إسبانيا، إلى مستشار أمني وعسكري للرئيس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى