الرأي

البكاء على مجد السينما

نقرأ باستمرار مشين في الجرائد وصفحات المواقع الإلكترونية تنديدات واحتجاجات على هدم دار سينما وكشف جشع أطماع الإسمنت المسلح والاستثمارات المتوحشة. وكل يوم تطالعنا عوارض تستنكر ما يجرم في حق المآثر التاريخية التي تتربص بها عمارات شاهقة وبطون حرام جاهلة، والسلطات تسد آذانها بالقطن وكأن الأمر مزحة أو عبث مجانين.
في طنجة ما تزال بعض دور السينما تستنجد بالمهرجانات التي تكرم الرداءة والصداقة، والأنوثة التي تجالس المنظمين في البارات والملاهي ومستعدة لتقبل أي دور، وبعضها الآخر تهش الذباب وتتسول الدعم من الوزارة الوصية لمواصلة الاحتضار، وما تبقى أغلقت وعمرتها القطط وحفتها ألوان التشرد والبؤس، وباتت مرحاضا لكل من ضاقت به السبل.
أما في فاس أو في مكناس أو في الرباط نفسها، فنادرا ما نصادف دار سينما تناضل من أجل ذاكرتها العميقة. في القنيطرة ماتت كل دور السينما والسلطات لا تهتم بمثل هذه الأمور. هدمت تلك التي كانت في موقع تجاري استراتيجي وأهملت من تضاربت حولها الآراء واختلف الورثة في ثمن بيعها أو في الجهة أو الصداقة الحزبية أو الخمرية التي ستمرر إليها الصفقة.
في هذا الزمن، أضحت كل دور السينما المكافحة تستغيث بعلامة (18- و-21) للبقاء على قيد الحياة، حتى لا يهجرها أوفياؤها ممن ما تزال تسكنهم متعة وهوس السينما القديم، أو تبكي مسرح الهواة والجمعيات المرتزقة لتمديد فترة الاحتضار. فمع التقدم التكنولوجي والقنوات التلفزيونية المتنوعة والمتألقة، لم يبقَ للسينما أي نصيب أو فرصة للانتعاش خاصة في عالمنا المتأخر.. في أيام زمان كان لها مجدها المغري وألقها المسلي، أما اليوم فباتت الأفلام الجديدة تعرض في القنوات الفضائية وانشغل الناس بثقافة التسلية، وحتى الذين تستهويهم مشاهدة الأفلام يستكينون في منازلهم ويشاهدون أفلاما على هواهم ورغباتهم، وأصبحوا أوفياء لقنوات معينة تعرض أفلاما ذات جودة وإثارة ودروسا في الإخراج والحبكة والحكاية. وأنا بدوري من رواد هذه القنوات الفضائية المتشعبة، ففي كل يوم أتصفح بعض القنوات الخاصة بالأفلام والتي رتبتها على التوالي، وفي كل يوم أستقر على فيلم جديد أغني به أفكاري بعدما أشبع نهمي من كتاب أو جريدة. حتى أضحيت ناقدا سينمائيا بالفطرة، أنتقد هذا الفيلم وأناقش موضوع الفيلم الآخر وأسبق مشاهدي الفيلم في سرد أحداثه ونقده.
ونحن صغار كنا نوفر ثمن تذكرة سينما بكل السبل لمشاهدة فيلم جديد أو لإعادة مشاهدة فيلم مثير ترك بصمته في أعماقنا.. كنا نجمع أسياخ الحديد والقناني البلاستيكية والخبز الصلب، وكل ما يمكن بيعه لتوفير ثمن تذكرة. وأحيانا كنا ننسل من المدرسة التي كانت تعطينا انطباعا بأنها لا تغني في شيء، ونتزاحم على الصفوف الأولى في السينما لمشاهدة فيلم يعانق فيه بطل هندي أو أمريكي أو مصري بطلة في حميمية محبوكة تقنيا..
اليوم لم تعد تلك النكهة التي كانت في السابق، حين كنا نغري فتيات القسم لارتياد السينما معنا، لممارسة شغب طفولي وتشويق أبناء الدرب بحكاية الفيلم. آخر مرة دخلت فيها السينما قبل أيام، بقيت أشاهد فيلما لوحدي بمعية حارس المدخل الذي سئم وامتعض عندما لم يأت أي أحد، حتى أولئك الذين يريدون الاختلاء بأنوثة حالمة، فأغلق الكهرباء مدعيا أعذارا واهية، وأنا أفهمه وأقدره.
الحملات التحسيسية والاحتجاجات لم تعد تعطي أكلها. تنتهي جديتها ومفعولها بمجرد انتهائها، والجمعيات التي تنادي بالحفاظ على مورثنا التاريخي تتنكر لكل شيء بمجرد جلسة حميمة في فضاء حميمي لا يدخله إلا الذين لا يتحدثون سوى بالصفقات المليارية، وتعطي انطباعا بكونها تقوم بما تقوم به من أجل ابتزاز الأرصدة المتخمة. وحدها بعض التنديدات الإلكترونية الغيورة والجرائد النزيهة من تبكي وتمسح دموعها في أسف على ماضي السينما وذاكرتها المتلاشية. هذا بغض النظر عما يتداول في الأشرطة السينمائية التي تعتمد بالدرجة الأولى على الصورة التي لا تعبر عن شيء ولا تأبه بالكلمة الهادفة.
في الغرب ما تزال دور السينما تحظى بما كانت تحظى به في السابق رغم عروض القنوات التلفزيونية التي لا تنتهي وتتناسل مثل جرثومة خبيثة. لماذا؟ هل هي مسألة ثقافة؟ مسألة وعي؟ مسألة اهتمام ومتابعة؟ لست أدري، فما أصبحت أعرفه هو أن حتى الفيلم السينمائي مات مع موت دور السينما تباعا.. ذات زمن كنا نستمتع بحبكة الحكاية وجماليتها وتقنية الصورة والإخراج، أما اليوم فقد أصبحنا نتلقف أفلاما منها ما يفرض علينا في قنوات بدورها تستنجد بمشاهد (-21) لرفع نسبة مشاهديها، أفلاما باردة ورديئة كل همها حصد الدعم المادي وإرضاء ذوق الصداقة والقرابة التي تمرر الدعم، الذي تنفقه الأغلبية «ويسكي» و«كافيار». فيما الجمهور يكتفي بمشاهدة الأفلام الواقعية التي تنشر في المواقع الإلكترونية التي تصور المجازر والأساليب القمعية والبذاءة والفظاعة من قلب الحدث. لسنا في حاجة إلى سينما مادية، سنستمتع بالحكاية والحلم والمتعة الفنية في القنوات الفضائية حين تقهرنا حسرة وخيبة أفلام الشارع الصادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى