الرأي

التلواز الثقافي

كان من الطبيعي أن يفرز المجال الفني المغربي المنفلت من كل الضوابط والقواعد، ظواهر مثيرة تم التطبيع معها وكأنها بمثابة تحصيل حاصل. لذلك يعيش هذا القطاع حالة ازدحام حادة بعد تناسل أعداد فناني آخر ساعة الذين برعوا في استغلال وسائل الاتصال الحديثة من أجل تحصيل شهرة مطبوخة بتوابل الإثارة والاستفزاز والقدرة الخارقة على استسهال الصعب، وهو ما يذكر بشعراء الفخر والحماسة العرب حين قال أحدهم «أستسهل الصعب ان داست به قدمي/كالنسر يهوى عناق الريح في القمم/الفقر يخشى نجاحي رغم صحبتنا/والدهر يرجو جفاف الحبر من قلمي».
فخلال نفس الأسبوع، ودون تنسيق في مايبدو، قررت الفنانة الفضائحية لبنى أبيضار، و»فنانة» الرقص و»التلواز» الشرقي حكيمة العروسي أن تخفيا عورتيهما مؤقتا من أجل تقمص شخصية المحلل السياسي لقضايا الساعة، صاحب المشورة والرأي السديد في المنظومة الانتخابية والرؤية الثاقبة التي تستشرف التصويت الشعبي وتسعى إلى توجيهه «الوجهة الصحيحة» قبل أن تظهر ملامح منطوق صناديق الاقتراع. وهكذا أطلقت بطلة «الزين اللي فيك» قناة على موقع «يوتيوب» ضربت فيها موعدا أسبوعيا مع الجماهير من أجل توجيه النصيحة والموعظة، فيما التزمت الراقصة العروسي بتدبيج ركن لها عبر «النيت» من أجل إخراج الأمة من سباتها وتنبيه الغافلين، كما لم تتردد في أول ركن لها في توجيه انتقادات لاذعة لنجيب محفوظ، أول وآخر عربي حصل على جائزة نوبل في الآداب وهاجمت رؤيته «القاصرة» للراقصات حين وضعهن في خانة العاهرات.
وطبيعي أن الممثلة والراقصة لم تقررا اقتحام مجال الكتابة والرأي وتوزيع صكوك الإدانة والغفران إلا بعد أن لمستا أن هناك فراغات وبياضات في المجال خلفتها استقالة النخب المثقفة التي ركنت إلى الصمت واكتفت بدور المتفرج على واقع انتصر فيه الغث على السمين، والرداءة على الجودة، واقع أصبح فيه أصحاب المعرفة المتمكنين من أدواتها يخجلون من الإعلان عن أنفسهم فاسحين المجال للمعتوهين والفاشلين و»قلال الأدب» لكي يعيثوا فسادا في الفن والثقافة والآداب دون حسيب أو رقيب، خصوصا بعد أن أصبح «الفنانون»المزيفون يحصدون الثروات الهائلة في وقت وجيز ودون وجه حق.
ويذكر هذا الواقع المرير بآخر ما كتبه إدوارد سعيد قبل رحيله في مؤلفه «خيانة المثقفين» حول إقصاء دور النخب والحيلولة دون مناقشتها لـ «الإنحلال الفكري العربي» مع إبراز العلاقة الملتبسة للمثقف مع محيطه المباشر الذي انحدر إلى الدرك الأسفل على كل المستويات، مما سينتج عنه ما سماه بـ «صدام الجهل» وتوجه عامة الناس إلى التطرف نتيجة لهيمنة اليأس على النفوس.
لقد تراكمت العديد من المؤشرات على أن الرداءة حققت الكثير من الانتصارات دون مقاومة تذكر سواء من الفاعلين في الميدان الفني أو من المجتمع نفسه.
وكم كان بودنا أن نخلص إلى أن الأمر يتعلق بسحابة صيف سرعان ما تندثر، أو حمى سيتعافى منها المجتمع بأقل تكلفة، لكن اكتساح ظاهرة الرداءة للعديد من المجالات يجعلنا نلتزم بواجب التحفظ ضد أي تفاؤل أبله بنهاية استفحال الرداءة التي تنتعش وتتغذى من مقولة مجتمع بأكمله يردد شعار شوف وسكت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى