سري للغاية

الجابري: «الاستعمار شكل «قوة ثالثة» من قياد وزعامات دينية ومخزنية للضغط على محمد الخامس»

سابعا: حكومة الحماية، المركزية والازدواجية
يتبين مما تقدم أن «نظام حكومة المغرب» يقوم على خاصيتين: المركزية الشديدة والازدواجية.
أما المركزية فلها مصدران: دولة القرون الوسطى، ودولة الحماية. فدولة القرون الوسطى تركز السلطة كلها في يد السلطان الذي يمارسها بنفسه، أو يمارسها باسمه وتحت أمره ومراقبته «الصدر الأعظم» الذي يبدو في الظاهر وكأنه يوازي في منصبه رئيس الحكومة أو الوزير الأول في الحكومات العصرية إلا أنه في الواقع أقرب ما يكون إلى «مدير الديوان الملكي»، كما وصفه بذلك بنشنهو بحق. وأما دولة الحماية فقد رأيناها تركز السلطة كلها في يد المقيم العام فهو يتولى مباشرة مهام وزير الخارجية، ووزير الدفاع، والكاتب العام للحكومة، وزير الوظيفة العمومية، ووزير الداخلية، والقائد العام للجيش، أي ما يسمى اليوم بـ «وزارات السيادة» التي ليس لها أصل ولا فصل في الدستور، ولكنها موروثة من نظام حكومة الحماية.
وأما الازدواجية المركبة فتتمثل أولا في كون السلطة الملكية تمارس على الوزارات التي لها علاقة بالدين (العدل، التعليم، الأحباس). وفي كون المقيم العام يختص بوزارات الداخلية والدفاع والخارجية. كما تتمثل الازدواجية في كون السلطة الملكية لها مندوبون في الإدارات المتخصصة التابعة للمقيم العام وهي أشبه بالوزارات. هذا إضافة إلى الإشراف على الباشاوات والقواد بواسطة إدارة الحماية. تماما مثلما أن المقيم العام يشرف على وزراء المخزن وحكومته… والشكل التالي يشخص هذه المركزية الشديدة والازدواجية المركبة.
ثامنا: نظام حكومة الاستقلال
وعندما اعترفت فرنسا للمغرب باستقلاله تحولت كل السلطات التي كانت للمقيم العام الفرنسي إلى الملك إضافة إلى ما كان لحكومة المخزن التي كان على رأسها الصدر الأعظم من اختصاصات. وهكذا فإذا عدنا إلى الجدول السابق ونقلنا مربع «الحكومة الفرنسية ـ المقيم العام» إلى داخل مربع «السلطان ـ الصدر الأعظم» فسنجد أن كل المكاتب التي أطلق عليها بنشنهو «الحكومة العليا للحماية» قد انتقلت إلى «دار المخزن» وهي ما يوصف اليوم بـ «وزارات السيادة».
أما الحكومة التي تألفت بوصفها حكومة مغرب الاستقلال فلم تتجاوز مجال ما كان يطلق عليه زمن الحماية اسم «المديريات»، أي الوزارات التقنية والخدماتية، وحتى في هذا المجال احتفظ المخزن بحضوره فيها من خلال «المندوبين» الذين أصبح حضورهم فعليا تحت اسم «الكتاب العامين للوزارات»، وهم يعينون بظهير ومرتبطون بـ «الحكومة العليا» للمخزن مثلهم مثل القواد والباشاوات وكذا العمال والولاة الذين حلوا محل «حكام النواحي» الذين كانوا تابعين مباشرة للمقيم العام. جميع هؤلاء أصبحوا تحت «الحكومة العليا» للمخزن، التي تتكون من مستشارين ومكلفين بمهمة وغيرهم وعلى رأسهم مدير الديوان الملكي، بعدما كانوا تحت سلطة «الحكومة العليا» للحماية التي كان يديرها المقيم العام.
لقد ورث المغرب المستقل نفس البنية المعقدة التي تطبعها المركزية الشديدة والازدواجية المفرطة التي كان يتأسس عليها نظام الحكم على عهد الحماية، الشيء الذي يفسر التعقيدات التي تتصف بها الإدارة المغربية، فضلا عن الفساد الذي يجد في تلك المركزية والازدواجية مرتعا خصبا، ومظلات يستظل بها في كل مجال. أما «الحكومة» فهي كانت ولا تزال مجرد أشخاص «حزبيين» أو تقنوقراطيين ـ لا فرق ـ لا سلطة لهم إزاء هذا «المركب» الإداري الذي تختلط فيه المسؤوليات وتتداخل بصورة تجعل من الصعب على «الوزير» أن يمارس مهمة الوزير المسؤول كما في النظم الديمقراطية الحديثة.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو التالي: لماذا سارت الأمور في المغرب المستقل في هذا المسار؟ لماذا تحولت اختصاصات «المقيم العام» كلها إلى دار المخزن إلى درجة أصبح معها وزراء عهد الاستقلال أقل سلطة من «مدراء» المصالح الإدارية التي كانت تابعة للمقيم العام؟
سؤال يتطلب الجواب عنه شرح الملابسات التي تأسست فيها أول حكومة في عهد الاستقلال، وذلك ما سيكون موضوع الفصل التالي.
الفصل السابع
الحكومات المغربية في بداية الاستقلال:
«محمد الخامس هو الضمانة»
أولا: القوة الثالثة ومفاوضات إيكس ليبان
لعل أول ما يجب إبرازه في المشهد السياسي الذي دشن به المغرب مرحلة الاستقلال هو الظروف الاستعجالية والمعقدة التي تمت فيها عودة محمد الخامس المقرونة بالاعتراف الضمني باستقلال المغرب. ولفهم تعقيدات هذه المرحلة لا بد من الرجوع إلى المراحل الأخيرة من الكفاح الوطني من أجل الاستقلال.
كان عزل محمد الخامس ونفيه في 20 غشت 1953 تتويجا لمسلسل بدأته السلطات الفرنسية قبل عامين من ذلك التاريخ، حين عمدت من جهة إلى قمع الحركة الوطنية المتمثلة في حزب الاستقلال خاصة، وتكوين «قوة ثالثة» قوامها قواد كبار (إقطاعيون) وزعامات دينية (طرقية) وشخصيات من دار المخزن نفسها. كان الهدف من هذه «القوة الثالثة» الضغط على الملك محمد الخامس لحمله على قطع علاقاته مع الحركة الوطنية والتوقيع على الظهائر التي تقدمها له سلطات الحماية في موضوع ملاحقة وتصفية قيادة حزب الاستقلال وأطره ومناضليه من جهة، ومنح المعمرين والجالية الفرنسية في المغرب عموما حقوقا لم تمنحها لهم معاهدة الحماية، من بينها «حق المواطنة». ولما لم يرضخ الملك محمد الخامس لهذه المطالب اتهم بكونه قد انحاز إلى جانب حزب الاستقلال، «حزب الأقلية في بعض المدن» حسب زعمهم، وبالتالي تخليه عن أغلبية الشعب المغربي التي تسكن البادية. من هنا جاءت «الفتوى» بعزله وتنصيب آخر مكانه. وذلك ما حدث فعلا.
كان من الطبيعي أن يثير ذلك ردود فعل من الشعب المغربي فقامت مبادرات تهدف إلى الانتقال بالكفاح من أجل الاستقلال من العمل السياسي الذي لم يعد ممكنا إلى النضال المسلح. وهكذا خرجت من صفوف حزب الاستقلال أساسا حركة مقاومة مسلحة بدأت بتصفيات في صفوف عملاء إدارة الحماية في جهاز الداخلية والبوليس، لتنتقل إلى ضرب مراكز القوى في الوجود الفرنسي نفسه، ولتتطور أخيرا إلى جيش للتحرير وجد مجالا له في المنطقة الشمالية التي كانت تحت الحماية الإسبانية. وبسرعة غير متوقعة بدأ العمل من أجل التنسيق مع جيش التحرير الجزائري الذي بدأ نشاطه في نوفمبر 1954، في وقت كانت فيه الحركة الوطنية في تونس قد انتقلت بدورها إلى العمل المسلح.
كان المغرب وتونس خاضعين لفرنسا بموجب عقد حماية اعترف لهما بكيانهما الذاتي، المستقل عن كيان فرنسا. أما الجزائر فقد كانت مستعمرة تعتبرها فرنسا امتدادا لها وجزءا لا يتجزأ من كيانها. ولكي تقطع الحكومة الفرنسية الطريق أمام التحام حركات التحرير الثلاثة في حركة واحدة، تعمل على تحرير المغرب العربي ككل، دخلت في مفاوضات مع كل من تونس والمغرب. وذلك من أجل التفرغ لمقاومة الثورة الجزائرية والاحتفاظ بالجزائر كجزء من الأرض الفرنسية.
ومع تزاحم الأحداث وتداخلها في إطار الهيجان الشعبي والمد العالمي التحرري، قررت فرنسا القبول بعودة محمد الخامس ومبدأ استقلال المغرب. ولكي تبقي بزمام الأمور في يدها أعادت تشكيل «القوة الثالثة» وكيفتها مع الظروف الجديدة لتجعل منها «المنافس الوطني المعتدل» لحزب الاستقلال، وأيضا المزاحم له على المؤسسة الملكية. وهكذا فرضت فرنسا هذه القوة الثالثة «الجديدة» بمكوناتها كأطراف في المفاوضات إلى جانب حزب الاستقلال، ومن ثم كشركاء في حكومات الاستقلال.
وهكذا رتب الفرنسيون الأمور بالشكل الذي تبدو فيه عودة محمد الخامس مدينة، ليس للوطنيين وحدهم، بل كذلك لهؤلاء «المعتدلين»، وأيضا لخصوم محمد الخامس بالأمس (الكلاوي وحركته) الذين أعلنوا «التوبة» ودخلوا ضمن «الإجماع» الوطني على عودة الملك.
على هذا الأساس وفي هذا الإطار جرت مفاوضات «إيكس ليبان» لترتيب عودة محمد الخامس وتشكيل حكومة ائتلافية تتولى ترتيب العلاقات بين فرنسا والمغرب وبالتالي التوقيع على وثيقة استقلال المغرب. لقد اشترك في هذه المفاوضات نحو 37 وفدا، منها وفد حزب الاستقلال الذي كان على رأسه المرحوم عبد الرحيم بوعبيد. أما باقي الوفود فكانت تضم حزب الشورى و«الأطراف» الأخرى المكونة لـ «القوة الثالثة». ومع أن حزب الاستقلال رفض أن يجلس ممثلوه حول طاولة واحدة مع الأطراف الذين استدعوا إلى إيكس ليبان فإنه لم يطرح مشاركة المقاومة والنقابات في المفاوضات مع أنها كانت لها تمثيلية حقيقية. ويمكن تفسير ذلك بكون قيادة المقاومة وجيش التحرير ـ وكذلك علال الفاسي الذي كان على اتصال بها من القاهرة ـ كانت غير راضية عن العملية برمتها من جهة، وأيضا لكون أعضاء في قيادة حزب الاستقلال لم يكونوا متحمسين لأسلوب المقاومة المسلحة، ومتوجسين من أن يصبح «الحزب» تحت هيمنة القوى الجديدة التي انبثقت من داخله وبالتحديد المقاومة والنقابات.
ولابد من أن نضيف إلى ذلك أن الفرنسيين لم يكونوا ليقبلوا التفاوض مع من حملوا السلاح ضدهم. بل أكثر من ذلك اشترطوا على القيادة الاستقلالية بوصفها تمثل المقاومة وجيش التحرير التدخل لإيقاف «أعمال العنف» سواء في صورة العمل الفدائي أو في صورة هجمات جيش التحرير كشرط مسبق. وقد قبلت قيادة المقاومة وجيش التحرير ذلك شريطة أن تنتهي المفاوضات إلى عودة محمد الخامس والاعتراف بالاستقلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى