الرئيسية

الحسن الثاني.. أوصى بعشاء يراعي نظام الحمية لليوسفي ورفض لفت نظر رئيس تحرير بسبب صورة ملكية

قبل أن يرحل إلى دار البقاء استجاب الملك الحسن الثاني لمطلب الصحفي الفرنسي جان دانييل، الذي عرف بحواراته مع الملك. شد جان الرحال إلى الرباط حيث أنجز حوارا مطولا نشرته «لو نوفيل أوبسرفاتور» في عدد 8 يوليوز 1999، لكن المثير في هذا اللقاء هو السؤال الأخير الذي يجعل المتلقي يفهم منه أن بوادر رحيل الملك قد ظهرت للصحفي حين وجه إليه السؤال التالي:
«هل تشعرون، يا صاحب الجلالة، أحيانا ببعض الندم والحسرة وأنتم تتأملون حياتكم؟«
كان جواب الحسن الثاني أشبه باعتراف اللحظات الأخيرة:
«أجل، وحسرتي الكبيرة هي أنني كنت أميل إلى رؤية تلقائيتي في الآخرين، وكنت أمنح ثقتي بسرعة دون أن أضع الأشخاص على المحك، وكان هذا سبب جميع الزلات التي وقعت فيها كيفما كانت أهميتها، هذا هو مفتاح أخطائي وهفواتي».
كان آخر حفل عشاء رسمي أقامه الملك الحسن الثاني على شرف رئيس دولة، هو الذي نظمه الراحل بقصر الصخيرات لضيفه العربي رئيس الدولة اليمنية علي عبد الله صالح. كان العشاء رسميا بكل طقوسه المخزنية، إلا أنه اتخذ طابعا خاصا وحميميا، واقتصر على بعض الشخصيات المهمة داخل الدولة، عكس ما كان يحصل في لقاءات مماثلة، لم تخصص موائد كثيرة وتم الاقتصار على مرافقي الرئيس اليمني، وولي العهد آنذاك الأمير سيدي محمد وشقيقه المولى رشيد و عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول وإدريس البصري وزير الداخلية، وثلة من المستشارين. على غير العادة، دعا الحسن الثاني ضيفه إلى التعرف على مرافق قصر الصخيرات، وطاف به جنباته وهو يشرح له حكاية الانقلاب العسكري الفاشل.
توقف الرجلان أمام شاطئ البحر طويلا، حتى ارتبك المكلفون بإعداد وجبة العشاء، يروي الرئيس اليمني ما دار بينه والملك في حوار عقب الوفاة:
«حين عاد الملك إلى ضيوفه كشف عن مضامين حديثنا، وقال للحاضرين إنني من المدافعين عن ملف الصحراء وكأنني مغربي الجنسية، وأضاف وهو يمسك ذراعي إني أعتبر الرئيس علي عبد الله صالح مغربيا».
لوحظ، خلال حفل العشاء المقام على شرف الرئيس اليمني والوفد المرافق له، أن فرحة تغمر الملك بعد أن عانى في الأيام الأخيرة من آلام ظاهرة للمقربين منه، لكن الملك في تلك الليلة طلب إعداد وجبة خاصة إكراما لوزيره الأول عبد الرحمان اليوسفي، الذي كان يتبع نظام حمية صارم، بعد معاناة من مرض السكري وخروجه للتو من عملية جراحية في الدماغ.
شعر الملك بالتعب منذ عودته من فرنسا، وطلب من مدير ديوانه إرجاء كل مواعده لمدة ثلاثة أيام، حصل هذا عشية يوم الخميس 22 يوليوز سنة 1999 أي قبل يوم واحد من وفاته. كان آخر نشاط رسمي للحسن الثاني بقصر الصخيرات، حيث بدا الملك سعيدا وهو يرسل قفشاته لعبد الرحمن اليوسفي الذي كان في المائدة الملكية نفسها. في نهاية الحفل حاول أحد المقربين منه لفت نظره إلى صورة ظهرت في أحد المنابر الإعلامية للملك في باريس يظهر فيها بملامح منهكة، واقترح على الحسن الثاني لفت نظر رئيس تحرير تلك المطبوعة لكنه رفض وقال:
«صورتي في قلوب جميع المغاربة».
تلقى إدريس البصري، وزير الداخلية، إشعارا بالالتحاق بالمستشفى الذي توجه إليه الملك صباح يوم الجمعة، حيث طلب من الوزير الإشراف على صياغة بيان طبي يطمئن الشعب على صحة الملك، لكنه سيخرج من الجناح الملكي للمصحة ببيان ينعي وفاته، أمام حالة ذهول لأن الرجل ظل محافظا على صلابته متحديا المرض.
يقول البصري:
«في يوم الخميس أخبرني أحد مساعدي الملك بأن صاحب الجلالة سيعود من الصخيرات إلى الرباط، وكنت أجهل السبب، فقد كنت أعرف فقط أنه مصاب بنوبة زكام خفيف. وصل الملك إلى الرباط في حدود الساعة السادسة مساء، وعند الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة، وبينما كنت أتناول العشاء صحبة بعض الأصدقاء، رن جرس الهاتف. فخلال اليوم نفسه اتصل بي الملك مرارا هاتفيا، ولم يكن أي شيء في نبرات صوته ينذر بأنه كان مصابا بمرض قاتل. وعندما أمسكت سماعة الهاتف قال لي: سأذهب إلى المصحة الملكية ليوم أو يومين، لا شيء يدعو للقلق، لكن تعال غدا لتحرر صحبة الأطباء بلاغا لطمأنة الشعب على صحة الملك، وموعدنا سيتأجل إلى يوم الاثنين.
في اليوم التالي توجه الملك إلى العيادة الطبية في القصر. لكن الأطباء ارتأوا أن ينتقل إلى مستشفى ابن سينا، فتوجه إليه ودخله مشيا على الأقدام، إلا أن حالته ساءت وتدخل أطباء فرنسيون إلى جانب الأطباء المغاربة لإنقاذ حياته، دون جدوى، فقد فاضت روحه وانتقلت إلى باريها أمام ذهول محيطه.
رحل الحسن الثاني في الرابعة والنصف من بعد ظهر الجمعة 23 يوليوز وشيعه أبرز قادة العالم إلى مثواه الأخير، حينها تحول الانشغال بالبيان الختامي لمسار الملك، إلى اعتكاف لصياغة جزئيات حفل البيعة التقليدي وتأمين الانتقال السلس للسلطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى