الرأي

الدكتور جيكل والسيد هايد

بقلم: خالص جلبي

تشبه قصة الدكتور (جيكل ـ هايد) من جهة قصة (فرانكنشتاين) بغرابتها، ولذا أصبحت هاتان القصتان من التراث الإنساني الأدبي، فأما الأولى فتحكي ازدواجية الإنسان المحيرة من حيث يجمع أحدنا في جوفه الوحش والملاك، وهي جدلية ناقشها الفيلسوف الفرنسي (باسكال) تحت قانون النهايتين، بدون أن يعثر لها على حل، حين يقول أحدنا إنه قادم من العدم وإليه سينتهي. أحدنا إلى العدم هو كل شيء وهو إلى اللانهاية عدم؛ فنحن نسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية. أحدنا وحش وملاك قديس وبالوعة الضلال، فهل من يشرح لنا هذا التناقض؟ ويمكن قراءة أفكاره في كتابه «الخواطر»، وهو في مكتبتي وحين قرأت أفكاره للمرة الأولى من كتاب «قصة الحضارة» لويل ديورانت، تذكرت الآية: (تقشر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله).
وأما الثانية، أي قصة (فراكنشتاين)، وهي القصة التي ألفتها بريطانية في نهاية القرن التاسع عشر، فتحكي قصة محاكاة الخلق الإلهي، عندما جمع طبيب أعضاء من أجسام شتى من أموات حديثين ليطبق عليهم الكهرباء والكيمياء في لحم الأعضاء ببعضها، لينهض إنسان عادي أولا، ثم لينتهي بكارثة.
وهذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟
وهذه القصص تروي طموحات الإنسان وحدودها، وقصة الاستنساخ التي راجت وعمت، ثم انطفأت وبارت، انتهت إلى نتيجة من هذا النوع بعد أن قتلت (دولي) وظهرت عليها الشيخوخة قبل الأوان، فقتلها من استولدها.
نشأ الدكتور جيكل طبيبا من عائلة ثرية، وكان يحاضر في تشريح الدماغ، فهداه تفكيره إلى أن بالإمكان عن طريق حقنة سحرية أن يغير طبيعة الإنسان فينتزع منه نوازع الشر، فيصبح ملكا سويا. فالدماغ يتحكم في الجسم، والعقل في الدماغ، والدماغ تركيب كيماوي فإن ابتكرنا دواء يؤثر في الدماغ غيرنا السلوك، وهذا الكلام له حاليا أرضية علمية فقد اكتشف أن الخوف متعلق بمادة كيماوية يفرزها الجسم؛ فإن حقن بها خاف، وإن نقصت المادة انتفى الخوف، وهي تجارب رأوها في دماء مصارعي الثيران وكذلك في دماء عتاة المجرمين بكندا في مقاطعة ساسكواتشن. ولكن الخوف هو من طبيعة الإنسان ومغروسة فيها من أجل المحافظة على الحياة، ولنتصور أننا نعيش بدون خوف من الأفاعي، أو السقوط من شاهق، أو مخابرات فرع فلسطين بسوريا، هل يمكن أن نبقى على قيد الحياة؟ ولذا فإن التفكير الذي مشى به الدكتور (جيكل) بني خطأ على خطأ، وهو تفكير غير ممكن وغير عملي، لأنه يقضي على الطبيعة الأصلية في الإنسان. وحاول الدكتور جيكل من خلال مختبر سري أن يجرب عقاره السحري المزعوم على الحيوانات، فقتل منها ما قتل، ثم ظهر له أن العقار بدأ يأخذ مفعوله فينام الحيوان ويروض فيصبح أنيسا بعد أن كان وحشيا، فظن الدكتور جيكل أن تطبيق هذا العقار على البشر سوف ينتهي معهم بالنتيجة نفسها من ترويض نوازع الشر عندهم. وبعد فترة انتظار أن يتقدم أحد فيخضع نفسه للتجربة، سئم الدكتور جيكل الانتظار فبدأ في تطبيق العقار على نفسه. وما حدث أن انشقت شخصية الدكتور إلى شخصيتين، فهو شخص محترم معتبر في النهار اسمه (الدكتور جيكل)، وهو مجرم شقي قاتل مغتصب في الليل اسمه (السيد هايد). وهكذا أطلق الوحش الذي في داخلنا من عقاله. وعلماء النفس الإسلامي وقبلهم علماء اليونان، وحاليا علماء مدرسة النفس التحليلي اكتشفوا أن هناك في داخل كل واحد منا طبقة عميقة مظلمة من بقايا وحش الغابة سموها (اللاوعي)، وما جعلنا بشرا أسوياء هو تركيب الدماغ الحديث، ويسمونه الأطباء الدماغ الجديد فهذا الذي يملك السيطرة، في حين أن قاع الدماغ يحتوي على تراكيب لا نختلف فيها كثيرا عن التماسيح والأرانب، وهي قصة تطورية، ولولا هذه المراكز ما استطعنا العيش، لأن فيها مراكز الحياة الحيوية، وفي الفص الصدغي في الدماغ توجد منطقة اسمها اللوزة، وفيها يوجد مركز العواطف. وحاليا اكتشف البعض (دورة عاطفية) في الدماغ بين الأميجدالا (اللوزة)، ومركزها الفص الدماغي الصدغي، وبين الدماغ العلوي. وهكذا فنحن في داخلنا قد رُكبنا طبقا على طبق، في الأعماق تمساح، وبينهما قطة وكلب وسبع، وفي النهاية بشر رائع نفخ الله فيه من روحه فسواه فعدله.
وقصة (جيكل ـ هايد) تظهر جدلية الثنائية عند الإنسان وأن في صدر كل واحد منا وحش مختبئ، قد أفلح من رَوضه وقد خاب من أطلقه. والكائنات في الكون أربعة بأربعة أقطاب، منها ما كان أحادي القطب ومنها ما كان ثنائيا، فالشيطان سلبي الاتجاه، والملاك إيجابي التوجه لا يسأمون عن عبادة الله ولا هم يستحسرون، بينما كان الإنسان ويلحقه الجن ثنائيي القطب. ونحن لا نعرف عن الجن شيئا، وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا، والله يرانا هو وقبيله من حيث لا ترونهم، وأعظم الجدل في الإنسان هذه الثنائية، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، وسرها هو التطور، فالكائن أحادي الاتجاه لا يتغير ولا يتطور، والملائكة عند ربهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، في حين أن آدم عصى ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه فهدى. وقصة الثنائي (جيكل ـ هايد) تم تمثيلها في فيلم رأيته، وكما يقال في بعض الكتب: «كتاب ليتني لم أقرأه»، وأنا أقول عن الفيلم: «ليتني لم أشاهده». والروح تتعكر برؤية أشياء سيئة، وليس من شيء أفسد للنفس من رؤية الأشياء مقلوبة مقززة من الدم والاغتصاب والعدوان. وهو ما رأيناه في منظومة الشبيحة والبلطجية في العالم العربي، وهم يقتلون المتظاهرين عن اليمين والشمال عِزينَ، أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم، كلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى