الرأي

الرجل الذي لم يرغب أن يصير وزيرا أول

لم يزعم «جوكر» الحسن الثاني يوما أنه رجل فكر. كان ينأى بنفسه بعيدا عن جدل الصحافة والمنتديات. لاحقته ذات مناسبة رسمية من أجل انتزاع تصريح، والمناسبة شرط لدى فقهاء السياسة والشرع، فرد قائلا إنه يعرف أين يضع توقيعه على المراسيم والصفقات، ولا يكتب المقالات. ثم أشفع كلامه بأنه يهوى قراءة مغامرات « تان تان»، في إشارة إلى العودة إلى عالم الطفولة.
ما من أحد يقطع مع طفولته، تلك التي خصها الكاتب الدبلوماسي، عبد المجيد بن جلون، بسيرة ذاتية مليئة بالحنين والتأمل. وفي حالة كريم العمراني لم يكن التلفزيون ظهر إلى الوجود. واهتم كبار المخرجين السينمائيين بالعودة إلى أفلام الرسوم المتحركة ذات العبر التي تشحذ الذكاء وفن الانتقال من عمر إلى آخر. ولم يكن الوزير الأول العمراني يهرب إلى مجلات الأطفال، سوى لأنه كان يجد فيها متعة نقيضة لانشغالات حادة. فقد كان صديقا لزعامات الطيف السياسي في المعارضة والموالاة، يشاركهم في روايا النكت.
قليلون يعرفون أنه رافق الزعيم عبد الرحيم بوعبيد في فترات تحمل مسؤوليات حكومية .مجرد وجوده ضمن فريق المساعدين بالرأي الاقتصادي، كان يلغي صفة الجمود عن طروحات سياسية واقتصادية واءمت بين الواقع المحلي ونظريات التدبير. إلا أنه لم يكن يغادر عالم المال والأعمال والقطاع الخاص إلا ليعود إليه، كما في بداياته التي شقت الطريق من مخازن الزيوت والمنتوجات الزراعية، حتى صار يتربع عرش مقاولات كبرى، لم تترعرع في كنف الدولة وتجحدها في أوقات الشدة. بل سارت على خط مواز، في مرحلة تبادل الخدمات والمنافع، وكان مجيئه إلى عالم السياسية جزء من ذلك التراضي.
وزير أول لا يتابع ما تكتبه الصحافة المحلية والأجنبية، شيء لا يتقبله عقل سياسي. وفي فرضياته التي كان يلوذ إليها أن هناك كتابا وقراء، وهناك آخرين يشتغلون على الملفات. وحين اجتمع إلى أول حكومة عهد إليه بوزارتها الأولى، خاطب الوزراء بأنه لا يريد بيانات، بل أرقاما مدققة بأنواع المشاكل والحلول.
هل كان يستحضر تجاربه في تدبير قطاعات خاصة وعامة؟ أم أنه أراد استحداث أسلوب جديد في إدارة الملفات السياسية والاقتصادية بعقلية رجل الأعمال الذي يهتم بمراكمة الربح، دون التفريط في الرأسمال؟ في خلفيات أن الملك الراحل الحسن الثاني كان يقيس النجاح في السياسة بالمبادرات الخاصة، جين واجهته مشاكل السكن التي تعاظمت جراء تنامي المضاربات، قال أمام مجموعة وزراء أنه اختار لقطاع الإسكان رجلا يحسن التجارة. كان يشير بذلك إلى رجل الأعمال عبد الرحمن بوفتاس الذي أقر تقليد الاستغناء عن تعويضات الوظيفة. ويوم أراد الانكباب على قطاع الزراعة استشهد بنجاح مهندس زراعي، كان يملك ضيعة في الجنوب اسمه عثمان الدمناتي.
ففي تقاليد أن أول وزير شغل هذا القطاع كان منصور النجاعي، الذي عرف بامتلاكه أجود الأراضي الفلاحية في المغرب وغيره من المناطق. كأنما لسان حال الغائب يقول : إن الغني حتى الشبع والتخمة لا يمد يده لأملاك الدولة، وهذه مجرد فرضية قابلة للنفي والتأكيد.
عندما تولى محمد كريم العمراني الوزارة الأولى، كانت الفرصة سانحة للسلطة التنفيذية، كي تبدو جديرة بتدبير فترة دقيقة من حياة البلاد. ففي مثل هذا الشهر من عام 1971 سمع المغاربة بالوزير الأول الذي فوضت إليه سلطات تنظيمية كانت من اختصاص الملك. اقتضت الخطة ذات الطابع الاستعجالي إعداد برنامج تقويم في أقل من عام ونصف العام. كان البرلمان مشلولا بتركيبة من جنس سياسي واحد، بالنظر إلى تداعيات مقاطعة أحزاب المعارضة الرئيسية الانتخابات التي أدت إلى تشكيل برلمان الصوت الواحد.
إفلاس البرلمان إنما كان ترجمة بليغة، لإفلاس السياسة. فقد اهتزت البلاد على وقع تمرد انفلت عن الرقابة والانضباط. لكن الوزير الأول الذي كان يعرف أن مخاطر الزلازل لاتستثني قطاعات أو فئات أو مجالات، عمد إلى تشخيص الإفلاس بمنطق رجل الأعمال. أقربه أن السلم الاجتماعي والالتفات إلى مطالب شركاء الإنتاج جزء من منظومة العمل الإنتاجي الذي يختل إذا انفرط أحد عناصره. وما ينطبق على المطالب الموجهة ضد الحكومات لا ينسحب بنفس الحدة السياسية على مجالات التعاقد بين العمال وأرباب العمال. وفي وقائع افتقاد الخميرة من الأسواق ذات زمن، ما يبرهن على ذلك. وما تردد عن احتكار إنتاج الخميرة لاشك أنه اختمر في الأذهان حول قطاعات أخرى. والأرجح أن خميرة الانتخابات كانت وقتئذ فاحت حموضتها.
روى أحد الوزراء عن تفاصيل ذلك الاجتماع الحكومي، مؤكدا أن زميلا له في الهيئة الحكومية سأل الوزير الأول إن كان البرنامج سيعرض على البرلمان، ولو من باب الاستئناس، فالتفت كريم العمراني إلى وزير الداخلية أحمد بن بوشتى يسأله عن رأيه في هذه النقطة، فما كان من هذا الأخير إلا أن أحاله على وزير الدفاع الجنرال محمد أوفقير الذي كان سهر على انتخابات العام 1970، وتخلص كريم العمراني من الإحراج بأن روى للحاضرين أنه كان يخير المديرين والعاملين في شركاته بين النجاح أو إغلاق الأبواب في وجه الجميع.
لا قياس بين النجاح في القطاع الخاص وبين تعثرات التجارب الحكومية التي قادها، في ظل تفويت جانب من السلطات التنظيمية. ومما جاء في بيان التكليف الذي اعتبر الأول من نوعه في سياقه ومضمونه، على خلفية إنهاء حالة الاستثناء، أن ظهيرا صدر يوم تشكيل الحكومة يقضي بنقل اختصاصات تضمنها الفصل التاسع والعشرون من دستور المرحلة إلى الوزير الأول .
انضافت مهلة العام ونصف العام إلى عمر الحكومة الأولى التي قادها كريم العمراني ، وجرى التجديد له على رأس حكومة ثانية. وبعد حوالي عشر سنوات أخرج «الجوكر» من القبعة، يوم كانت البلاد على موعد مع استحقاقات انتخابية. ثم تكررت التجربة، بما رجح الاعتقاد بأن كريم العمراني كان يصار إلى دعوته إلى تحمل المسؤولية عند كل منعطف سياسي واقتصادي حاسمين. وعلى رغم كل الانتقادات التي همت مفاصل الفترات المتلاحقة، ظل كريم العمراني أبعد عن المعارك التي كانت توجه فيها الحرب إلى الوزارة الأولى.
فهو في النهاية لم يرغب في تولي أي منصب حكومي، بما في ذلك وزارة الاقتصاد، ومن الوقائع اللافتة في مساره أنه رأس أول مجلس اقتصادي، قبل أن تنص الوثيقة الدستورية لعام 1996 على تأسيس مجلس بهذه المواصفات. فقد فتح عينيه على قطاع الفوسفات مبكرا، ونقش اسمه بالحرف اللاتيني الأول على مقر المجمع الشريف للفوسفات، وإن هوت أسعار في البورصة العالمية أو ارتفعت. وكان هناك حين من الوقت تساءل فيه مسؤولون مغاربة عما يجب فعله بالمداخيل العالية من العملة الصعبة، قبل أن تصبح نادرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى