الرأي

العباقرة الثلاث (2-2 «النظام وحسن الصباح والخيام»

بقلم: خالص جلبي

 

في عام 1070 م اجتمع ثلاثة من العباقرة في جامعة «نيسابور»، ضمتهم غرفة واحدة فيها يأكلون وينامون ويتدارسون، هم «عمر الخيام» و«نظام الملك» و«الحسن الصباح 1050 – 1124م»، وكان الثالث أشدهم دهاء. وفي يوم قال حسن الصباح لرفيقيه: يا شباب يبدو أننا في طريقنا للوزارة، فماذا تقولون أن نتفق أن من وقعت في حضنه تفاحة السلطة، أذاق رفيقيه شيئا من حلاوتها. قال الآخران: اتفقنا. وكان اتفاقا ترتبت عليه لعنة للمنطقة. وتقول لنا الأيام إن مصير الثلاثة كان متباينا، فأما «نظام الملك» فقد قفز إلى كرسي الوزارة عند مغامر قفز بالحصان العسكري على رقبة الخليفة العباسي وأمسك بالحكم، هو السلجوقي «ألب أرسلان». وأما «عمر الخيام» فقد انصرف إلى شعره وخمره وفلسفته العدمية، التي أطبقت عليه من ظلمات الوضع العربي في تلك الأيام. بعد أن أمن على معيشته بـ600 دينار شهري، خصصها له القصر الملكي. أما الثالث «حسن الصباح» فكان طموحه غير محدود، وحاول منافسة زميله «نظام الملك» على كرسي الوزارة، فاحتدم صراع مصيري بين الرجلين، كاد الصباح أن يدفع عنقه ثمنا له، ففر لينشئ تنظيما فولاذيا سريا، بعد اتصاله بالإسماعيليين والتدرب على أيديهم. واستطاع الوصول إلى شيخ الجبل وهو «عبد الله بن عطاش»، الذي أعطاه أسرار الجماعة وأموال الإسماعيلية. وقام بعدها بتطوير العمل على نحو عبقري، حيث رأى أن العمل السري المسلح لا يحتاج إلى جيوش كثيرة، بل عناصر قليلة حسنة التدريب، شديدة الولاء إلى حد العبادة، وبتنظيم خاص غير قابل للاختراق ينتشر مثل انتشار السرطان، وبعدد محدود من صغار الشبان الذين يتم غسل أدمغتهم بالتعصب والحشيش. وكان الرجل قد اكتشف مادة «الحشيش» في مصر، فرأى فيها فرصة ممتازة للشباب، حيث يتم سقيهم بالحشيش حتى الخدر اللذيذ، ثم إدخالهم عالما خاصا يذكر بجنة من الأنهار والفاكهة والحور العين يطوف عليهم الغلمان كأنهم لؤلؤ مكنون، فإذا استيقظوا أوكلت إليهم المهمات الانتحارية. وكانت عناصر «التنظيم» على ثلاث طبقات، «الدعاة» وهم القادة الحزبيون، ثم طبقة «الرفاق» وهم المشرفون على تنفيذ الاغتيالات، وفي القاعدة القذائف الانتحارية «الفدائيون» من الشباب المدربين على الموت في سبيل شيخ الجبل. وعندما حاصر «ملكشاه» السلجوقي إحدى قلاع الإسماعيليين، أرسل حسن الصباح مجموعة من الفدائيين أغمدوا الخنجر في صدر صديق الأمس، «نظام الملك». ودشنت هذه الجريمة كما يقول القلعجي «عهدا جديدا في تاريخ الشعوب الإسلامية، ظل الاغتيال فيه سلاحا سياسيا طوال مائة عام. وبقي حسن الصباح أكثر من عشرين سنة في حصنه «آلاموت»، ويعني عش النسر، «ينظم الدعوة ويؤلف الكتب، ويدرب الجيوش ويعلم الشبان ويحيك المؤامرات، ويرسل الفدائيين لقتل الأمراء والوزراء والحكام من خصوم الإسماعيليين بالخنجر المسموم»». ومات عام 1124م وخلفه «كيابزرد حميد»، وعندما تعرضوا للاضطهاد في إيران لجؤوا إلى سوريا، فأنشؤوا تنظيما أشد ترويعا وإرهابا، على يد شيخ الجبل الثالث سنان، بقلعة مصياف، وهذه القلعة زرتها أنا شخصيا في سوريا، فذهلت من فخامة التحصينات وعظم الصخور التي رفعت إلى رأس الجبل. قلت لنفسي كانت دولة هنا في يوم من الأيام، ولكن لم يبق منها شيء الآن إلا الحجارة، وهي ترثي، وتذكرت قول الشاعر أبو البقاء الرندي الذي رثى الأندلس يوما، حين قال: حتى المحاريب تبكي وهي جامدة  حتى المنابر ترثي وهي عيدان. وهو الشعور نفسه الذي استولى علي وأنا أزور مسجد قرطبة الكبير، وأنا أتأمل الأقواس وعيدان الرخام والمحراب وبلغ من تأثري يومها ـ وكانت ابنتي أروى معي ـ ما دفعني إلى الأذان في المحراب، فهجم علي حراس المسجد، فتابعت الأذان. قلت يومها: لعل عظام الأموات هنا تسمع الأذان فترتاح. هكذا هي حال الدول والأيام، واختصر القرآن هذه الدورة التاريخية بعبارة «وتلك الأيام نداولها بين الناس».

صلاح الدين الأيوبي يبقى علما في التاريخ وليس بمقدس، فهو من أرسل إلى ابنه غازي، حاكم حلب، بقتل السهروردي الصوفي.

في زيارتي إلى مونتريال بكندا في ماي 2005م، كنت حريصا على رؤية فيلم صلاح الدين الجديد، في أسبوعه الأول، الذي أخرجه «ريدلي سكوت Regisseur Ridley Scott». وأتذكر من طفولتي رؤيتي لفيلم «صلاح الدين الأيوبي»، حين تبارينا أنا وغاري المسيحي «لبيب» حول مقارنة البطلين، فقد تحمس زميلي المسيحي للصليبيين وأنا تحيزت بالطبع لصلاح الدين، ومما حفر في ذاكرة الطفولة عندي من تلك الأيام في القامشلي، تنافس صلاح الدين مع ريتشارد قلب الأسد، فالثاني ضرب بسيفه عمودا من الحديد ففلقه إلى نصفين، أما صلاح الدين فقد طوح في الهواء بوشاح من حرير، ثم ضربه بالسيف بنعومة فقصه قطعتين، فتعجب ريتشارد من ذلك. وكان صديقي المسيحي يسعى جهده في البرهنة على أن جبروت ريتشارد يفوق خفة صلاح الدين.

وفي الواقع فإن نقلة 40 سنة تفصل بين الفيلمين. وأنا في زيارتي إلى كندا، كنت حريصا على معرفة ما الذي تغير في النظرة الغربية تجاه الثقافة الإسلامية والعرب، وقد ظهر هذا واضحا في المقابلة التي أجرتها مجلة «المرآة» الألمانية في عددها 18/2005، ص 172، مع الممثلة «إيفا غرين Eva Green»، التي أخذت دور ملكة القدس «سيبيلا Sybilla»، مع زوجها «جاي فون لوسينيان Guy von Lusignan»، فقد سئلت عن تذمر بعض المسلمين النشطاء أن الفيلم يحمل صورة سلبية عن الثقافة الإسلامية، مع أن الفيلم الذي كلف 125 مليون دولار عرض على لجنة خاصة في مكافحة العنصرية وأستاذ في الإسلاميات من جامعة كاليفورنيا، وهذا تقدم نوعي في عرض الأفلام، وهو من نتائج العولمة، والاتصال الإلكتروني، فلم يعد يعرض العربي أنه ذلك السفاح المتعطش للدم الجهول المتخلف، وكان جوابها: لعلهم لم يشاهدوا الفيلم، ولو رأوه لغيروا رأيهم، فهو يحمل كل الاحترام للثقافة الإسلامية، وصورة كريمة جدا للإنسان العربي، فضلا عن هذا أن الفيلم يظهر بوضوح أن كل دين فيه طائفة من المتشددين الذين يمثلون أنفسهم أكثر من الدين الذي ينتسبون إليه. وفي القرآن يتأكد هذا القانون أن البشر «ليسوا سواء»، وأن الدليل على صحة الكتاب «أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل» وأن قوم موسى ليسوا صنفا واحدا «ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون».

وهذا القانون من عدم التعميم الشخصي والتاريخي قارب نجاة، فالأمم يتفاوت فيها الناس، وفي التاريخ تتغير الأمم، وأمراض أهل الكتاب لا تخص المسيحيين أو البوذيين لوحدهم، بل ينطبق على الجميع قانون «بل أنتم بشر ممن خلق»، وقانون «قل فلم يعذبكم بذنوبكم؟».

نافذة:

أرسل حسن الصباح مجموعة من الفدائيين أغمدوا الخنجر في صدر صديق الأمس «نظام الملك» ودشنت هذه الجريمة كما يقول القلعجي عهدا جديدا في تاريخ الشعوب الإسلامية ظل الاغتيال فيه سلاحا سياسيا

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى