الرئيسية

المارشال قيبو.. جمع بين العيطة والكوميديا ومات فقيرا

كوميديون وهبوا حياتهم لإسعاد المغاربة فماتوا تعساء

اسمه الحقيقي محمد لحريزي، لكن لقبه الفني هو «المارشال قيبو»، عاش حياته في المدينة القديمة للدار البيضاء، وكان يقطن في زنقة الديوانة غير بعيد عن بوسمارة إلى أن لفظ أنفاسه في ذات البيت سنة 1974. وكأنه ظل محصنا داخل أسوار المدينة العتيقة لا يغادرها إلا عند الحاجة.
في طفولته كان الولد يصنع كمانا بالإمكانيات المتاحة يكفي أن له القدرة على جعل شباب تلك الفترة يصغي للعزف ويتمايل معه. قبل أن يصبح واحدا من رموز العيطة المرساوية في المغرب، ويحمل لقب «المارشال»، بل كان له دور كبير في صناعة أجيال حملت من بعده الكمان وتطبعت بطباعه.
عاش حياته في دروب المدينة القديمة عازفا لآلة الكمان، التي تفنن في مداعبة أوتارها، وأصبحت الأعراس لا تستقيم إلا بوجوده، وحول سر اللقب الذي لازمه، فقد قيل إنه كان يخفي وجهه في «قبه» حين يغني في حفل نسائي، لذا جاء لقب «قيبو» كما تقول بعض الروايات، أما «المارشال» فلقدرته على قيادة فن المرساوي، وتمكنه من ترويض «شيخات» عصره، كفاطمة المرينية وفاطمة المزابية وميلودة الدرنونية، لكن بعض رفاق دربه يجمعون على أن الملك محمد الخامس هو الذي أطلق عليه هذا اللقب حين دعاه يوما إلى القصر رفقة مجموعته وأنصت بإمعان لعزفه الجميل. بينما يرى بعض الباحثين أن بسطاء الناس بالدار البيضاء، في تلك الحقبة ونكاية بالحماية الفرنسية هم الذين منحوا محمد الحريزي رتبة عالية من شيخ إلى مارشال، ليؤكدوا للمحتل أن الشيخ قيبو أحب إلى قلوب الناس من كل جنرالات فرنسا.

عيطة وكوميديا
حين كان قيبو يبسط سيطرته على أعراس المدينة القديمة وأفراحها، فكر رفقة صديقيه بوشعيب وزليكة في تطوير أدائهم والحضور في البرامج الإذاعية، خاصة بعد أن تحولت أعمالهم إلى تحف، فتأسست مجموعة بوشعيب البيضاوي للغناء والمسرح وترأسها البشير لعلج، حينها دخل الرجل مرحلة أخرى سخر فيها العيطة لخدمة الأعمال الكوميدية خاصة في برنامج «رفه عن نفسك».
دخل إذاعة عين الشق عازفا وكان يعمل على تعديل جدول حضوره، خاصة وأن انشغاله بالأعراس يخنق مفكرة مواعده، إلا المجموعة الفنية التي كان ينتمي إليها لم تعد تقتصر على العيطة بل وسعت هامش اختصاصها ليشمل أكثر من لون فني: الغناء والمسرح الجاد ثم الكوميديا، حيث اكتشف الناس الوجه الآخر للعازف قيبو، قبل أن تتصدع أركان الفرقة بعد وفاة البشير سنة 1962 كانت الإذاعة تقدم الفنان قيبو في سهراتها دون لقبه «المارشال»، وهو ما أغضبه في مرات عديدة، كما سجل حضوره في برامج الترفيه التي كانت تبث صباح كل سبت.

خوتنا يا الإسلام
يروي أحد أفراد عائلة قيبو معاناة هذا الفنان خلال فترة الحماية، حيث كانت تصادر بعض أعماله، خاصة حين يغني قطعة عن عهد الحماية ودور المقاومة، يقول مطلعها «خوتنا يا الاسلام» وهي الأغنية التي زادت من متاعبه، لاسيما بعد أن ظل الخونة يتربصون به. ومما أغضب الرجل مصادرة كثير من الأعمال الفنية للفرقة المسرحية التي كان ينتمي إليها من طرف الإقامة العامة والتي تعتبرها تحريضا على المقاومة، بل إنه لزم الفراش حين منعت الفرقة من أداء أعمالها من طرف الاستعمار الفرنسي، ولم يتمكن من العودة إلى الساحة الفنية إلا في سنة 1956، أي بعد الحصول على الاستقلال لكن من خلال أمواج الأثير الإذاعية.
وبلغة طريفة يحكي الفنان والسيناريست حسن العروس عن الأيام التي تلت رحيل الفنان المارشال قيبو قائلا: «بعد الإعلان عن وفاة هذا الفنان، ترددت في المغرب سيما في أحياء المدينة القديمة إشاعة لا يمكن أن أنفيها أو أؤكدها، تشير إلى أن أحد القادة الأفارقة بعد سماعه وفاة مارشال بالمغرب، بعث إلى الملك الراحل الحسن الثاني رسالة مواساة، دون أن يعرف أن الأمر يتعلق بفنان، وبقي أبناء المدينة يرددون هذا الحادث بما يشبه النكتة».

اعتزال المارشال
مات قيبو متعدد الأدوار، الذي أبدع في الأعراس واستوديوهات الإذاعة، مع فرقة البشير لعلج. ورغم طي صفحته وعدم منحه المكانة الاعتبارية التي يستحقها فإن المارشال يعد بشهادة الجميع رائدا من رواد الأغنية الشعبية، خاصة حين يتعلق الأمر بالعيطة المرساوية التي أبدع فيها بشكل غير مسبوق مستلهما أعماله من مشايخ هذا اللون الغنائي.
قبل وفاته قام قيبو بزيارة للديار المقدسة، وظل حريصا على وضع حد لمساره الفني واعتزال الكمان بعد مشوار حافل بالفتوحات الفنية، لكن أقرب المقربين إليه يؤكدون أن الرجل لم يمد يده يوما لكبار الشخصيات التي كانت تستدعيه لتأثيث أعراس أهاليهم وعائلاتهم، ولم يسجل عليه زحفه على الامتيازات بل كان حريصا على تعليم أبنائه وإبعادهم قدر المستطاع من مناخ الغناء والتمثيل. لقد كان بإمكانه في فترة مجده أن يشتري العديد من المنازل في المدينة القديمة وخارجها، لكنه كان يرفض الاستثمار في العقار ويفضل الاستثمار في أبنائه من خلال تعليمهم وتهذيبهم. كانت نهايته أشبه بنهاية رفيق دربه بوشعيب البيضاوي الذي عاش غنيا ومات فقيرا، بل إن كثيرا من رفاقه لصمت قيبو وعفته خاصة حين كان الملك محمد الخامس يسأله عن أحواله، فيرد بخجل «مستور والحمد لله».
بعد وفاته في منتصف السبعينات، تبين أن الفنان كان يعاني من شظف العيش لكنه يقابله بالصبر والإيثار، فالسكن الذي كان يقطنه مجرد عقار صغير على سبيل الإيجار، وحين انتبهت الجماعة الحضرية لهذا الجحود وضعت على البيت لائحة معدنية كتب عليها «هذا بيت المارشال قيبو»، دون أن تعلم أن البيت لم يكن ملكا له، لذا عبث الأطفال باللوحة المعدنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى