الافتتاحية

بقعة الزيت الفرنسي

تمر فرنسا منذ شهر من متاهات سياسية واجتماعية في منتهى الخطورة، لأنها تضع القارة الأوربية ودولة إعلان حقوق الإنسان أمام مفترق طرق يمكن أن يتفرع إلى أكثر من اتجاه، فإما الخروج من الأزمة السياسية والاستجابة لدائرة مطالب أصحاب السترات الصفراء التي تتسع يوما بعد يوم، أو تشبث الحكومة بقراراتها وإدخال الجمهورية الخامسة في دوامة العنف التي يمكن أن تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.

وحتى اليوم، ففرنسا التي تعطي الدروس للعالم في الديمقراطية وتنصب نفسها وصية عليها، وتتحول إلى مؤسسة للتنقيط العالمي في مجال حقوق الإنسان للدول، فشلت في تقديم عرض سياسي قادر على نزع فتيل أخطر أزمة اجتماعية تعيشها منذ الاحتجاجات التي أسقطت الجنرال دوغول سنة 1968، واختارت أن تطلق اليد للمقاربة الأمنية المتشددة التي تؤاخذ الكثير من الدول على تبنيها خلال محاولتها الحفاظ على الأمن وحماية الممتلكات الخاصة والعامة.

وما وقع أول أمس في باريس من حملة واسعة للاعتقالات شملت 1200 محتج، ومشاهد تقييد أيدي تلاميذ قاصرين في منظر أشبه بأسرى حرب، وتحويل ساحة شانزيليزي إلى ساحة اقتتال، أن فرنسا تائهة، وأن الاحتجاجات باغتت المسؤولين الذين تفاعلوا بشكل متأخر مع مطالب المتظاهرين، بعد قرار تعليق زيادة الضرائب على الوقود، لتهدئة الشارع الفرنسي وإخماد شعلة الاحتجاجات التي ارتفعت وتيرتها وكثرت انزياحاتها اللاقانونية.

إن ما ظهر للوهلة الأولى من الطابع الاجتماعي للاحتجاج ضد قرار الضرائب على الوقود، تحول، بفعل سوء التقدير والاستخفاف بتدبير زمن الاحتجاج، إلى موجة مطالب سياسية أكثر إحراجا وصعبة التحقق دون تكاليف باهظة. فليس من السهل في نظام ديمقراطي ودولة المؤسسات، القبول بمطالب المحتجين بحل البرلمان وبإسقاط الرئيس ماكرون وحكومته منتخبة، وطرح خيار مغادرة الاتحاد الأوربي وإعادة النظر في أسس الجمهورية الخامسة والسياسة الليبرالية التي تخدم أساسا الطبقة الغنية على حساب الطبقة المتوسطة والفقيرة.

من المؤكد أن ما يقع في باريس من خلال حركة احتجاجات السترات الصفراء، لن تقف تداعياته السياسية والاجتماعية عند حدود فرنسا، بل إن بقعة زيت الاحتجاج ستتمدد إلى باقي الدول الأوروبية التي تعيش الأوضاع الاجتماعية الهشة ذاتها.

وبالفعل بدأت العدوى تصيب عددا من الدول التي عرفت ظهور نسخ مازالت محتشمة كما هو الحال في بلجيكا وهولندا، لكن زخمها محدود ويبقى خاضعا لمتلازمة الانفجار والكمون بناء على مصير الحركة في فرنسا التي ستقرر أي صورة سيكون عليها وجه القارة العجوز مستقبلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى