الرأي

بوابة الدخول إلى الخلود والشباب

بقلم: خالص جلبي
يضرب علماء النسبية مثالا، في ما لو أرسلنا شابا إلى كوكب آخر ذي سرعة خيالية، وأبقينا على صديقه من الجيل نفسه على ظهر الأرض. نحن نعلم شيئا عن سرعات الكواكب، فأرضنا تدور حول الشمس في 365 يوما لتقطع دورة كاملة، ولكن كوكب عطارد يقوم بدورة كاملة في 88 يوما، ويدور حول نفسه ليس مثل الأرض كل 24 ساعة، بل كل 59 يوما، في الوقت الذي يكمل كوكب بلوتو دورته حول الشمس في 248 سنة. لو قمنا بعد رحلة الشابين بإجراء مقابلة بين الرجلين، ولكن بعد مرور نصف قرن بتوقيت الأرض، فسنكون ضحايا مفاجأة صاعقة، العجوز على ظهر الأرض يقابل شابا يافعا ممتلئا صحة، قادما من كوكب مجهول، وكأنه اغتسل في نبع الشباب والعافية، والسر أن الزمن توقف عند الثاني ومشى ببطء القرون، ولكنه زحف كعادته عند الأول؛ فالنسبية فتحت إمكانية الفهم عندنا لاستيعاب فكرة الخلود، التي دشنتها وعبأت الطاقة الروحية للإنسان لها كل الكتب المقدسة.

مشروع البنك الخلوي الأمريكي
(A.T.C.C. AMERICAN.TYPE.CULTURE.COLLECTION)
ويدخل تحت هذا ظاهرة التبريد التي أمسك العلماء بقانونها، وتم إجراء عمليات التداخل على القلب، وإصلاح عيوبه، وترقيع ثقوبه، وتغيير دُسُمه المهترئة، واستبدال شرايينه المسدودة، بزرع أوردة الساق فيه، من خلال صدمة حمام الثلج التي تدخله في سبات عميق وموت ظاهري وتوقف للحياة مؤقت، فهذا قطاع كامل قائم بذاته في المشاريع الطبية والعلمية، ومن أبرزها المشروع الأمريكي في المحافظة على الخلايا، ومنها الحيوانات المنوية. فيمكن اليوم المحافظة على أي خلية في كهف التبريد النيتروجيني، في النشادر السائل 160 تحت الصفر، فيمكن إيقاف الحياة فيها لمدة عشرة آلاف سنة ويزيد، لتعود من جديد، في عملية إعادة الدورة، بإعادة تكاثر الخلايا وهكذا، في رحلة تقترب من الأبدية، وهذا يقرب إلينا قصة أصحاب الكهف، الذين توقف الزمن عندهم لفترة ثلاثة قرون بالتبريد، والمدهش والذي يفتح الشهية في قصتهم، لم يكن التبريد في مستوى الخلايا، بل في مستوى البشر.
كذلك فعلت قصة الاستنساخ بتقريب معنى البعث (البيولوجي) والحديث الذي أشار إلى بعث الإنسان من عجب الذنب، استطاعت آليات الاستنساخ التي رأينا إعصارها، في خبر استنساخ النعجة دوللي، في 23 فبراير من عام 1997؛ فالاستنساخ دشن طريقة وتقنية جديدة للقيامة البيولوجية، إذا أدخلنا إليه تقنيات علم (حفريات الجينات ـ  PALEOGENETIC). فتقنية حفريات الجينات وصلت إلى إمكانية نكش أي قطعة عظم من الأرض، ودراسة التركيب الجيني فيها، كما فعل العالم السويدي (سفينتو بيبو) عندما أخذ خزعة (اختبار طبي) من مومياء قديمة، وحدد منه التركيب الجيني للكائن الذي شبع موتا عبر القرون، وفيلم «جوراسيك بارك» أخذ هذه الفكرة وأنتج منها فيلما مثيرا، عندما اعتمد التقنية نفسها، فأنتج ديناصورات العهد البائد، ولكن النتيجة كانت مرعبة عندما هاجت هذه الحيوانات تفترس من بعثها من مرقدها.

وحدة الجنس البشري ودفن العنصرية
كذلك أمكن الوصول إلى معرفة (وحدة الجنس البشري)، وأن أمنا واحدة هي حواء، وأصلها جاء من شرق إفريقيا، تم تدشين هذا بواسطة التعاون بين ثلاثة علوم: الأنثروبولوجيا، حفريات الجينات وعلم الألسنيات، وعرفنا أن جذور الإنسان الأولى لربما نزلت إلى حوالي خمسة أو سبعة ملايين من السنين، وكان آخر كشف وأكثره مدعاة للإثارة، الذي كشف عنه العالم الأنثروبولوجي الأمريكي (تيم وايت ـ TIM WHITE)، بكشفه عن إنسان (أرديبثيكوس راميدوس ـ ARDIPETHICUS RAMIDUS) في إفريقيا، وحدد عمره بحوالي 4,6 ملايين سنة، مقارنة مع عمر الأرض الذي حدد بـ4,6 مليارات سنة. حيث يمثل ظهور الإنسان في سفر الخليقة الصفحة الأخيرة من كتاب بألف صفحة. هذا أيضا دشنه العلم الحديث، وصدقت نداءات الأنبياء عبر التاريخ (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وتم دفن العنصرية ونظرية تفوق الأعراق هذه المرة بمعول علمي رشيد.

يوم الحساب و«ديسك» الكمبيوتر
كما أن فكرة الحساب الأخروي تطوع في تقريبها الكمبيوتر، فيمكن حجز كل ذاكرة الإنسان اليوم في «ديسك» واحد لا يتجاوز حجم الكف، كي يقرأ الإنسان كتابه، كفى بنفسه عليه حسيبا، فهو «ديسك» كمبيوتري لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وليس هناك حاجة لعضو اللسان كي ينطق، فيمكن إنطاق الكاسيتات من كل الأشكال، كل هذا قربه إلينا العلم الحديث.
كذلك عرفنا من خلايا تشريح الدماغ والتركيب النسجي أن مفاتيح طاقة الدماغ والتفكير تعتمد مائة مليار خلية عصبية، مطوقة ومحاطة و(مفلترة) بمائة مليار خلية عصبية أخرى دبقية، في ترابط يعجز العقل عن متابعة تصوره، فكل خلية لها ألف ارتباط كحد أدنى، وبعضها يصل إلى مائتي ألف ارتباط، كما في خلايا (بوركنج) في المخيخ، مما يخلق قنوات وممرات وطرق عصبية مذهلة، بكم خرافي فلكي من إمكانيات شق طرق جديدة دوما، وزيادة التعلم وكسب المهارات بدون توقف، فالمفكر الفرنسي (ليفي شتراوس) تعلم اليابانية اليوم وهو في عمر التسعين، كما أن الإمام محمد عبده بدأ في تعلم الفرنسية بعد أن تجاوز الخمسين من العمر، وبقي المعماري التركي سنان يبني المساجد والقناطر ويتزوج وهو في عمر الثمانين.
إذا تصورنا جهاز الفيديو أو التلفزيون بنقاط اتصال كمفاتيح إلكترونية في عدد يصل إلى العشرات وبارتباطات محدودة، فعلينا تصور الدماغ الإنساني، ذي المائة مليار مفتاح إلكتروني، وكلمة إلكتروني تصغير وإنقاص وليس فيها كل الحقيقة، وهي تبسيط هائل لحقيقة ما يجري داخل الدماغ، لأن الخلايا العصبية لا تعمل بقوانين الفيزياء فقط، بل تتصل بواسطة المحاور العصبية فتتدفق السيالة العصبية أولا بشكل كهربائي، ولكنها بتماسها مع الخلايا الأخرى عند الوصول إلى التماس مع الخلايا الأخرى، تتحول عملية النقل إلى الشكل الكيميائي، وهي هنا في نهاية الاستطالات العصبية شيء مذهل. فما كشف عنه العلم حتى اليوم، إفراز ما يزيد عن أربعين مادة كيميائية؛ فالدماغ يعمل بآليات مختلفة منها الفيزيائي الكهربي، ومنها الكيميائي، ويخلق ما لا تعلمون وفوق كل ذي علم عليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى