الرأي

بين نهاية العالم والحداثة المتجددة

رضوان السيد

يشكل هذا العنوان ربطا بين عنواني كتابين، أولهما «نهاية العالم كما نعرفه» لعالم الاجتماع الكبير الراحل إيمانويل فالرشتاين، وثانيهما «الحداثة المتجددة» للمفكر الفرنسي المشهور آلان تورين. وتوقعات الرجلين لمستقبل العالم متباينة كما يظهر في العنوانين. أما فالرشتاين فيعتبر أن زمن «ما بعد الحداثة» هو زمن جديد تماما. في حين يرى تورين أن المرحلة الحالية أو المستقبل القريب هو إحدى مراحل الحداثة، فالتغييرات كثيرة، لكن المعالم الرئيسية باقية.
كلا الرجلين منشغل بالمتغيرات المعرفية التي تصنع أو تتسبب في صنع تغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وفي النظام الدولي. والمتغيرات المعرفية تتصل بالذكاء الصناعي ووسائل الاتصال. ولأن التكنولوجيات الجديدة ما عادت حكرا على الاحتكارات الغربية، فإن الصين ثم الهند دخلتا فيها ثم تفوقتا، وتوشك الصين بالذات أن تسود الجميع في فترة لا تزيد على العقدين على الأكثر.
أما فالرشتاين، اليساري الميول، فيعتبر على طريقة جورج أورويل، صاحب رواية «1984» المشهورة، أن التكنولوجيات الجديدة والتي تتجدد إلى ما لا نهاية، غيرت وجه العالم، بحيث ما عادت تمت بكبير صلة إلى قيم التنوير التي أعلنت رموزا لأخلاقيات الحداثة وإن لم تسُدْ فيها بسبب شراسة الرأسمالية العالمية ثم المعولمة. ما كان الصراع في الأزمنة الحديثة بين القيم الإنسانية والممارسات التوتاليتارية، بل كان بين الشركات العالمية، وعندما يتفاقم تتدخل الدول مرة باسم المصالح الوطنية، ومرة أخرى باسم سيادة الدول، وفي الدواخل باسم العدالة الاجتماعية. أما في العالم الجديد فستتفاقم مسائل الهويات الخاصة، لكن الذي يحكم العالم شراكات في صورة دول، أو دول في صورة شركات. ويظل هناك نوع من التحكم أو الحكامة، لكن ذلك لا يلجأ إلى قيم أو اعتبارات متفق عليها، بل إلى مواضعات جديدة يعتمد فيها «الحق» على القوة والتفوق، سواء في إنتاج الأفكار أو الممارسات.
آلان تورين همه الرد على الفلاسفة الجدد أو فلاسفة ما بعد الحداثة. وقد كان هم هؤلاء نقض الأفكار السائدة في قيم التنوير. وكانت تلك القيم في نظرهم ثورية، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنها استؤنست ودُجنت واستهلكت قواها الذاتية، والأخرى الناجمة عن دعم بعض الجهات لها. أما تورين فشأنه في ذلك مثل شأن هابرماس وجون راولز وتشارلز تايلور وبول ريكور.. إلخ. وهؤلاء جميعا إصلاحيون ومجددون بمعنيين: أنهم يعودون إلى قيم زمن التنوير بتأويلات جديدة، وأنهم يراجعون إمكانيات الإصلاح والتطبيق وسط الظروف المتغيرة. تورين يلاحظ أنه منذ القرن التاسع عشر، وقبل الاختراعات والتكنولوجيا الكبرى وبعدها، تغيرت أمور كثيرة. المجتمع المدني العالمي يحمل قيم التنوير بشكل مضاعف. فما عادت قيم الحرية وحقوق الإنسان قيما نبيلة وللنبلاء فقط، بل صارت لكل الناس وفي وعي الناس جميعا. لذلك، وفي ظل التكنولوجيات، سيظل الأفراد مصرين بقوة على حقوقهم. وهذه الفردية (النبيلة) ستشتد في بلدان مثل الصين أيضا. إنما الذي يلاحظه تورين أن التفكير بالدولة لا يتطور بسرعة، فالدولة حَكَمٌ منصف بالفعل أو يمكن أن يكون كذلك.
التصوران للمستقبل راديكاليان في النظرة والتفاصيل. وفي الوضع الحاضر، مع وباء كورونا، تظهر نزعات لوجهة نظر فالرشتاين وأخرى لصالح رؤية تورين. وعلى كل حال، فإن «النماذج الخالصة» أو الدقيقة، لا تصح في المجال الإنساني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى