دين و فكر

تفسير سورة الفاتحة (91)

ما أرشد الله إليه في طلب الهداية إنما هو الجامع لخير الدنيا والدين. فانظروا إلى هذا الدعاء «رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا» فقد جمع بين خير الدنيا والآخرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول «خير متاع الدنيا المرأة الصالحة» فإذا صار البيت سكناً وهناءة، والذرية صالحة، حيث جعل الله كل من تمثل باسمه بكافة أفعاله وأحواله وحركاته وسكناته، جعل له من الذرية الصالحة التي لا يمسها الشيطان بسوء. هذا فضلا عن الطيبات ورغد العيش التي ما خلقها الله في الدنيا إلا من أجل عباده المؤمنين. وهذا صريح قول الله سبحانه «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فهذه منة من أعظم المنن التي خص الله بها بني آدم حيث تكرم عليهم بهذا في قوله سبحانه «يَا بَنِي آدَم خُذُوا زِينَتكُمْ عِنْد كُلّ مَسْجِد».
وبنو آدم على الحقيقة هم الذين ورثوا أنواره وأسراره. أما من خرج عن منهج أبيه واستقامته، واتبع هواه والشيطان، فقد خرج عن هذه البنوة. وهذا من صريح قول الله لنوح عليه السلام بالنسبة لولده الذي شقّ عصا الطاعة وأبى أن يسير في ركب المؤمنين «قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ». فهذه الزينة التي خصّ الله بها بنيه، إنما هي الزينة التي جلله الله بها من الأنوار حتى حارت الملائكة في هذا النور وما له من الهيبة والجلال. وقد أسجد الله الملائكة له لأنه سر روح الأمانة التي لها هذا الشأن من الرفعة والعزة والهيبة والجلال.
هذا جانب في التعريف بالصراط المستقيم. أما الجانب الأخر فهو الكشف عن الضد والنقيض. وقد قالوا «وبضدها تتميز الأشياء» وهذا من أجل أن لا يختلط الأمر على مؤمن فيمن يَتلَبسُ الإيمان ظاهرا ليخدع عباد الله المؤمنين فقال: «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» وإذا نظرنا في كتب التفسير في بيان المغضوب عليهم والضالين، فالغالبية ذهبوا إلى أن المراد بالمغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى. وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يمثل الذروة في من استحق الغضب وبلغ درجة بعيدة في الضلال. لكنّ القرآن الكريم يكشف بالتفصيل عن كل ما يستوجب غضبه من الأفعال والفتن والفساد. والله جل جلاله يقول: «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» ويبن كذلك في قوله ما هو أشد من هذا جُرما «والفتنة اشد من القتل». ويبين ما توعدهم به من مصير «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ». وقد كشفت الآيات كذلك عن الذين استحقوا هذا الغضب من أهل الكتاب فيقول سبحانه «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ. قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ» ولا يستثني من أولئك المنافقين الذين جعل مصيرهم في الدرك الأسفل من النار، فقد توعدهم الله سبحانه بقوله «وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا».
وما كان هذا البيان إلا من أجل أن يحترز منهم المؤمنون، ولا يلقون إليهم بالمودة والولاء والتبعية، لذلك حذرهم ونهاهم بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء» وكما قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ويبين ما أعد للذين تولوهم من غضب الله عليهم بقوله سبحانه «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». بل جعل ذلك علامة على عدم وجود الإيمان كما في قوله «لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ» وحذّر من مغبة الركون إليهم من ما يستتبع ذلك من النكال في قوله سبحانه «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ». وهذا الركون الذي نراه في أمة العرب والإسلام إلى الأعداء شرقا أو غربا، هو ما نشهد نتيجته من هذه النار، التي مست الأكباد ودمرت البنيان وأهلكت الحرث والنسل، هؤلاء الذين غضب الله عليهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى