دين و فكر

حتى نفهم جيدا معاني آيات المواريث 1/2

معاني الآية 11 من سورة "النساء"

أقترح عليكم بدءا بهذا المقال سلسلة حلقات نتطرق فيها لآيات المواريث ونفسرها، مع إثارة بعض الجوانب التي كوّن أغلب الناس عنها مغالطات كثيرة. ولأن علم المواريث قائم الذات وله أهله وشعابه، فإن الأغلبية يكتفون بالإدلاء برأيهم في بعض النقاشات المتعلقة به، بما يسمعونه فقط.
ولنبدأ..
قال تعالى:
“يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا” .11
هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة، هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك، ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتاب «الأحكام» فالله المستعان.
وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك. وقد روى أبو داود وابن ماجه، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة أو فريضة عادلة».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شيء ينتزع من أمتي».
رواه ابن ماجه، وفي إسناده ضعف.
وقد روي من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد وفي كل منهما نظر. قال [سفيان] ابن عيينة: إنما سمى الفرائض نصف العلم، لأنه يبتلى به الناس كلهم.
وقال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام: أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ منه، ثم رش علي، فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين».
وكذا رواه مسلم والنسائي، من حديث حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج به، ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر.
حديث آخر عن جابر في سبب نزول الآية: قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله – هو ابن عمرو الرقي – عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال. قال: فقال: «يقضي الله في ذلك». قال: فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك».
وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، به. قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه.
والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات، ولم يكن له بنات، وإنما كان يورث كلالة، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري، رحمه الله، فإنه ذكره هاهنا. والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية، والله أعلم.
فقوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»، أي: يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشم المشقة، فناسب أن يعطى ضعفا ما تأخذه الأنثى.
وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، كما جاء في الحديث الصحيح.
وقد رأى امرأة من السبي تدور على ولدها، فلما وجدته أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟». قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فوالله الله أرحم بعباده من هذه بولدها».
وقال البخاري هاهنا: حدثنا محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع.
وقال العوفي، عن ابن عباس قوله: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»، وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض، للولد الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن وتعطى البنت النصف. ويعطى الغلام الصغير. وليس أحد من هؤلاء يقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة.. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيغير، فقال بعضهم: يا رسول الله، نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم ونعطي الصبي الميراث وليس يغني شيئا.. وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا.
وقوله: «فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك». قال بعض الناس: قوله: (فوق) زائدة وتقديره: فإن كن نساء اثنتين كما في قوله [تعالى] «فاضربوا فوق الأعناق» [الأنفال: 12] وهذا غير مسلم لا هنا ولا هناك، فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه وهذا ممتنع، ثم قوله: «فلهن ثلثا ما ترك»، لو كان المراد ما قالوه لقال: فلهما ثلثا ما ترك. وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بطريق الأولى وقد تقدم في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين، فدل الكتاب والسنة على ذلك، وأيضا فإنه قال: «وإن كانت واحدة فلها النصف»، فلو كان للبنتين النصف [أيضا] لنص عليه، فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث، والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى