الرأي

حقائق في ظل الخيار الجهوي

  ليست انتخابات البلديات والجهات بمعزل عن سياق تاريخي، أكبر من لحظة المنافسات والتباري على احتلال المقاعد، كثيرة أو قليلة. فالرهان على التنظيم الجهوي الذي يهم تغيير وتطوير بنيات الدولة، ينصرف إلى تكريس حقيقتين أساسيتين:
الأولى تهم الطبعة الوطنية التي تمهد لإقامة منظومة الحكم الذاتي الموسع في الأقاليم الجنوبية. وبعد أن كان الاختيار الجهوي مطروحا على مستوى هذه الأقاليم، لتمكينها من آليات متقدمة في تدبير شؤونها المحلية، على قاعدة الحكامة الجيدة والعقلانية، وحسن استغلال الموارد البشرية والمادية، لفائدة النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، انتقل إلى المجال الوطني برمته، في ظل أحكام الوثيقة الدستورية التي تعتمد مبادئ المساواة والتوازنات، على طريق التخفيف من حدة الفوارق بين الفئات والمجالات.
من أسباب التركيز على الأقاليم الجنوبية، على الرغم مما حظيت به من أوراش ومرافق وتجهيزات نقلتها إلى مصاف المدن والحواضر العصرية، بعد أن تركها الاستعمار الإسباني عارية من كافة مقومات التنمية، أن الهدف يروم تصحيح أوضاع تاريخية. وكان طبيعيا أن تضخ الدولة موارد أكبر للقضاء على أنواع الخصاص الذي كانت تعانيه في ميادين الصحة والتعليم والسكن ومختلف القطاعات. فيما يروم الحل الجهوي استيعاب الحقائق الجديدة.
إلا أن بداية تطبيق الرهان الجهوي في مختلف الجهات التي تقلص عددها من 16 إلى 12، بغاية النجاعة وتكريس الوحدة واستيعاب الخصائص المتشابهة في الموارد والبنيات الاجتماعية والثقافية والتقاليد ومزايا التعددية، إنما يؤكد المنظور الوحدوي لهذا الخيار.
بصيغة أخرى فإن ربط الرهان الجهوي بالوحدة يعزز ثوابته على أرض الواقع، ويكفل قيام أقطاب اقتصادية وإنتاجية متنوعة.
أما الحقيقة الثانية فتكمن في التلازم القائم بين الديمقراطية والتنمية، وما ينطبق على الأقاليم الجنوبية هو نفسه الذي تستفيد منه باقي الأقاليم. وقد جسدت النسبة العالية للإقبال على صناديق الاقتراع في الأقاليم الجنوبية استفتاء موضوعيا حول سلامة ونجاعة هذا الاختيار الذي يجب أن يوضع في الاعتبار، خصوصا بالنسبة لأوجه التعاطي مع ملف الصحراء على المستوى الدولي. وكما أن خطة الحكم الذاتي الموسع جاءت حصيلة مشاورات ديمقراطية شملت ممثلي السكان المنتخبين ونواب البرلمان وفعاليات المجتمع من نساء وشباب ورموز قبلية مؤثرة، فإن حجم الإقبال على صناديق الاقتراع يعكس إيمان وثقة السكان في الخيار الجهوي الذي يدعم خطة الحكم الذاتي.
إنها لمفارقة بادية للعيان أن يكون سكان الأقاليم الجنوبية قد انصهروا في إطار مشاركة سياسية واعية ومسؤولة لتدبير شؤونهم وقضاياهم بحيوية وتعبئة وحماس، فيما لا يزال جزء من الساكنة الذين قدر لهم أن يفتحوا عيونهم على حياة المخيمات جنوب شرقي الجزائر محرومين من أبسط الحقوق في التجوال وإبداء الرأي والتعبير بكل قناعة عن تقرير مصيرهم، ما يضع السلطات التي تمارس عليهم الاحتجاز القسري في مواجهة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
الأخطر في هذا الواقع المأساوي أنه لا يكتفي بالتفريق بين أفراد الأسرة الواحدة فحسب، بل يفرق بين الساكنة في حظوظ أحقية الحياة الحرة الكريمة التي يأتي في مقدمتها حق العودة الطوعية الذي تنص عليه كل المواثيق والقوانين الدولية، بديلا عن حق اللجوء حين تنتفي أسبابه، علما أن السكان المقيمين قسرا في مخيمات تيندوف ليسوا لاجئين، بل مختطفين ورهائن يتم استخدامهم لفائدة أحلام التوسع الجزائري.
إذا كانت الاستحقاقات المحلية في البلديات والجهات، ثم في مجالس العمالات والأقاليم ومجلس المستشارين، حظيت برصد إقليمي ودولي، من منطلق اختبار قدرات البلاد في الذهاب بعيدا، على طريق دمقرطة المؤسسات والحياة العامة، والاتجاه نحو توسيع مجال المشاركة في بلورة قرارات التدبير المحلي ديمقراطيا وعن قرب، فإن ما يؤسف له أن بعض الممارسات في هذا النطاق لم تسلم من آفات وعاهات كانت التجربة في غنى عنها. فقد آمن الناخبون بسلامة هذا الاختبار ومنحوا أصواتهم لمن لمسوا فيه التعبير عن تطلعاتهم، إلا أن بعض أنواع التحالفات التي لا تستند على مرجعيات الأفكار والمراجعات من شأنها أن تؤثر سلبا على مسار التجربة.
هنا تكمن مسؤولية «الناخبين الكبار» الذين أوكل إليهم المشرع فرصة تمثيل السكان بطرق ديمقراطية، ولئن كانت بعض التحالفات تفرض نفسها على الجميع، من منطلق تشكيل غالبيات منسجمة ومعارضة متجانسة، فإن محك الاختبار الحقيقي سيظل رهن أسهم المنتخبين في مجال الجهات في الارتقاء إلى متطلبات هذه المرحلة الدقيقة. أكان ذلك على مستوى ما تتيحه القوانين الإجرائية من اختصاصات وصلاحيات، أو على مستوى إفراز نخب كفيلة بنقل الخيار الجهوي إلى مصاف متقدمة، تحقق الأهداف الكبرى للتجربة، وليس التربع على كراسي المسؤولية. وما بين البعدين المحلي والوطني والدولي لهذه التجربة أنها أكدت عزم المغاربة على أخذ زمام المبادرة، وهذا هو الأهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى