الرأي

خديعة اسمها شهوة البطن

ليست البطنة ما يذهب الفطنة فقط، ولكن شهوات البطن تقود أحيانا إلى مآزق. والظاهر أن العقيد عبد الله القادري، قبل أن تنفتح أمامه أبواب السياسة، لم يرفض دعوة نظيره محمد عبابو إلى وليمة تلتئم في بوقنادل شمال الرباط. من منطلق أن «المعروضة كتربح». غير أن وليمته تحولت إلى مأساة مثل شاهد لم ير شيئا.
كان بالفعل مغمض العينين، لولا نباهة لحظة الحسم التي دفعت به إلى إنقاذ حياته مرتين، الأولى حين طلب إليه المشاركة في محاولة انقلابية لم تدر في خلده أبدا، وهو العسكري المتمرس على قواعد الانضباط. والثانية حين تعرض لاستنطاق حول حقيقة ما جرى، وظل متمسكا بنقل الوقائع كما عاشها فعلا، لا كما حاول البعض تصويرها.
صباح ذلك اليوم ، في العاشر من يوليوز، رن الهاتف في مركز الديمومة بثكنة عسكرية في الرباط . كان على الخط الكولونيل عبابو، الذي قاد حجافل الطلبة العسكريين من مدرسة هرمومو، في اتجاه الرباط، بمبرر إنقاذ حياة الملك الحسن الثاني، وقال لهم وهو على أبواب العاصمة، إنه يواجه مخاطر حقيقية.
سأل القادري عن حاجة عبابو من وراء المكالمة، فأدرك الأخير أن لا علم له بما هو بصدد تنفيذه والجنرال محمد المذبوح. وربما كان مهتما بأن يعرف إن كانت أنباء أو تساؤلات تسربت. طالما أنه و أفواج العسكريين عبروا المسافة على امتداد ساعات، ولا يمكن ألا ينتبه أحد إلى ذلك.
فهم إذن أن مخاطبه يعيش في ظلام، فاستدرجه عبر دعوته إلى مأدبة غذاء في بوقنادل. قد يكون الأمر بدا بديهيا بالنسبة إلى القادري. فيما كان غريمه يفكر في شيء آخر، أقله الحشر باسمه في المحاولة الانقلابية التي آلت إلى الفشل. ويالها من زردة، قال عبابو إنها ستشمل المشوي وكؤوس الشاي المنعنع، فاستنسخت في شكل مجزرة أودت بحياة أبرياء.
كان العرض مغريا في يوم عطلة، ولم يلُح أي شيء يدفع إلى الارتياب في أنه سيكون مختلفا عن باقي الأيام. من دون عناء، ركب القادري سيارته واتجه إلى الموعد المحدد. كان ذهنه خاليا، كما في اللحظات التي يستأنس فيها الإنسان بزرقة السماء، بعيدا عن ضوضاء المدن. لكنه بدل أن يجد نفسه أمام مائدة شهية بأصناف المأكولات كما اعتقد، سيبقى تحت تهديد السلاح للانضمام إلى متزعمي المحاولة الانقلابية. فقد فشل عبابو في إقناعه، وأرغمه أخيرا على الإذعان إلى الأمر الواقع، مطوقا بأفواه بنادق لا ترحم.
تظاهر بعدم الممانعة، وتحين الفرصة، ثم انسل من عربة الجيب وأطلق ساقيه للريح في اتجاه الغابة. يا لصدف التاريخ؟ فقد أخبرني المستشار كديرة مرة، وكان بصدد الحديث عن مزايا السدود التلية والغابات، وكشف أن فكرة توسيع غابة المعمورة في اتجاه الغرب، لمعت في ذهن الحسن الثاني، وهما يتناولان الغذاء في مطعم صغير في بوقنادل، كانت تديره سيدة أجنبية. ومن هناك أيضا انبثق مشروع إقامة مركب سياحي على ساحل المحيط الأطلسي بين الرباط والقنيطرة.
ثمة من يقول إنه نام هناك إلى صبيحة اليوم الموالي، لكن كيف يمكن للنوم أن يأتيه وهو في مثل باطل نزل عليه؟ يقول أحد مستوجبيه بعد أن تعرض للمساءلة حول أسباب انتقاله من ديمومة العمل إلى بوقنادل ذلك اليوم.
إنه حافظ على انضباطه العسكري، وروى حقيقة ما حدث، من المكالمة الهاتفية إلى لجوئه إلى الغابة. ومثله لا يذكر أحد أن ضابطا يدعى اللميس، استغل انشغال الطلبة العسكريين، وهم يدخلون العاصمة الرباط، ونزل من العربة ثم لاذ بالفرار. ولم يتوقف إلا عند احتمائه بمسكن مدير الأمن الوطني آنذاك أحمد الدليمي. فقد كان يرتبط بقرابة عائلية. وبرأت المحكمة العسكرية في القنيطرة من تهمة الضلوع في حادث الصخيرات.
سقط الكولونيل القادري في فخ شهوة البطن، لكنه خرج منها سالما متعافيا. فقد انصرف إلى الأعمال الحرة والتحق بالحزب الوطني الديمقراطي، كما عين وزيرا للسياحة. بيد أن انضباطه لم يتغير. وقد دفع ثمن ذلك عندما رفض يوما الامتثال إلى مستشار ملكي في عملية تجارية تطاول تسويق المنتوج السياحي. فقد كان عصيا على الاستمالة إلى غير ما يقتنع به.
شراكة الانتساب إلى نفس الحزب، جعلته يخلف رفيقه موسى السعدي في قطاع السياحة. فقد عرف عن الوزير الوجدي أنه يهوى قرض الشعر. وكتب يوما في مطبوع لترويج السياحة ما يشبه الشعر. فقد وصف المأكولات الشعبية التي تزخر بها ساحة جامع الفنا. ومما كتبه أن لذة الطعام تنسي المقبلين عليه كل شيء، بما في ذلك طنين الذباب.
في رواية أن المطبوع قدم إلى الملك الحسن الثاني وأثناء تصفحه، استرعت انتباهه تلك الإشارة إلى الأكل وطنين الذباب، فأبدى تبرمه من المشروع. لم تكن تلك المرة الأولى، ففي حالات عدة، كانت عين الحسن الثاني تذهب مباشرة إلى مواطن الأخطاء والهفوات في المطبوعات، التي تقدم إليه، فأي تفسير للظاهرة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى