الرأي

رحمك الله يا «ماكسويل بليك»

يونس جنوحي

لو كان السيد «ماكسويل بليك» حيا، لرمى البلاغ الرسمي الجزائري لقطع العلاقات مع المغرب في سلة المهملات.
وهذا الرجل الأمريكي كان يعيش في المغرب خلال القرن الماضي، حيث اشتغل دبلوماسيا في المغرب لما يزيد على ثلاثة عقود، ما بين سنتي 1917 و1940. وهي مدة كانت كافية لكي يتعرف هذا الرجل على المغرب جيدا. حيث اشتغل في طنجة الدولية أيام كانت تعج بالجزائريين الراغبين في التوجه إلى فرنسا، أو الجزائريين الهاربين من الاستعمار الفرنسي، ومنهم من كان يتحسس رقبته في طنجة وهو يتذكر حكم الإعدام الذي ينتظره في الجزائر.
وحسب بعض المراجع في أرشيف الأوقاف والشؤون الإسلامية، فإن أوامر من القصر الملكي أعطيت في بداية ثلاثينيات القرن الماضي لكي يسكن الجزائريون في منازل الأوقاف، ويتم إيواؤهم من طرف بعض أعيان الشمال في تطوان على وجه الخصوص. ولا أحد يدري ماذا صار لهؤلاء الناس، رغم أن الوارد أن يكونوا قد حصلوا على أوراق ثبوتية في المغرب عندما تم اعتماد الحالة المدنية في ستينيات القرن الماضي، وأصبحوا مغاربة. فيما فضل آخرون بعد حصول الجزائر على الاستقلال، أن يذهبوا إلى فرنسا بحثا عن مستقبل أفضل لهم ولعائلاتهم.
هذا الدبلوماسي الأمريكي، ماكسويل بليك، كان يعرف جزائريين في المغرب ممن هربوا من الثوار، بعد شيوع أخبار عن اشتغالهم لصالح الإدارات الفرنسية. وهؤلاء الجزائريون كان من بينهم حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، حيث اتهمه سكان الجزائر في عشرينيات القرن الماضي بالخيانة، لأنه وقع هدنة مع الجيش الفرنسي.
ولا بد أن الجزائريين ظلموا حفيد أمير ثورتهم ضد الاستعمار، إذ يعيش ملايين الجزائريين اليوم تحت استعمار جديد يقوده جيش بلادهم ضدهم، حيث يستفيد العسكريون من كل خيرات البلاد من البترول والغاز إلى الأكسجين، الذي يستنشقونه بصعوبة هذه الأيام بسبب نقص معدات الأكسجين في المستشفيات.
وبدل أن ينشغل الرئيس الجزائري بوضعية بلاده، فضل أن يعطف على بلاغ وقعه وزير خارجيته بلغة عسكرية، ويتورط في قطع العلاقات مع المغرب.
ولا يزال شاطئ تطوان إلى اليوم يحمل ذكرى رسو باخرة أميرة أردنية سنة 1954، لتنزل السلاح القادم من مصر لتمويل المقاومة المسلحة في المغرب والجزائر.
وقتها كان هؤلاء الجنرالات الجزائريون الذين يحكمون الجزائر اليوم، لا يزالون «مشاريع أبناء» عُقد عليهم الأمل لبناء جزائر الثورة.
كانت الشواطئ المغربية النقطة التي التقى فيها مقاومون مغاربة وجزائريون، حيث اختفوا بين الأشجار لأيام في انتظار وصول الباخرة التي كان يقودها مواطن سوداني أحب المغرب وسكن فيه، وأهمله الجزائريون رغم أنه غامر بحياته ونقل إليهم سلاح الثورة، الذي استعمله هواري بومدين ومن معه لتمويل كفاحهم المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، لكي يستعمر مع تياره الجزائر لاحقا.
وعندما نقل الجزائريون نصيبهم من السلاح إلى الجزائر برا عبر الناظور ووجدة، عرضوا أثناء طريقهم مئات المغاربة للاعتقال والتحقيق والتعذيب، ولم يش بهم أحد.
صدق الدبلوماسي «ماكسويل بليك» الذي قال في إحدى مقالاته المنشورة سنة 1929، والتي كتبها بمدينة طنجة، إنه يستغرب كيف يستطيع هؤلاء الجزائريون أن يعيشوا مع بعضهم البعض. إذ إن أحد أبناء الإداريين الجزائريين أيام الاستعمار هرب لينجو بحياته واختبأ في طنجة حتى يفر منها إلى الخارج، وكان يقضي وقته في مسجد المدينة القديمة غير بعيد عن مقر المفوضية الأمريكية، حيث يعمل «ماكسويل» وقتها. بينما جاء جزائري آخر من الثوار يلاحقه ليقتله بتهمة الخيانة، وكان يقضي كل وقته في حانة من حانات طنجة القديمة، حيث يتردد عليها أوروبيون من مختلف الجنسيات وأمريكيون. وعلق «ماكسويل» ساخرا بأن هذين الجزائريين لن يجد أحدهما الآخر نهائيا، فالمتهم الهارب في المسجد والثوري يقضي يومه وليله في «الحانة».
رحم الله السيد ماكسويل بليك، فقد لخص كل شيء.
فهذا ما يقع بالضبط هذه الأيام في الجزائر، الذين طردهم النظام بتهمة الخيانة يصلون في مساجد فرنسا طلبا لرفع البلاء، بينما العسكريون يقطعون العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، بدعوى الوطنية، ويراكمون ثروة كبيرة في تجارة الممنوعات وعلى رأسها الخمور المهربة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى