الرأي

روح رياضية

ارتبطت فرق كروية بأسماء مسيريها أكثر من نجومها. فقد كان بعض الرؤساء ينوبون عن اللاعبين في تسجيل الأهداف، وهم خارج الملعب. ومن لم يربح بالأخلاق الرياضية فاز بغيرها بقوة البطش والنفوذ.
قبل أن يضع إدريس البصري قدميه على درج الصعود الأول، سأله الجنرال أحمد الدليمي، وكان وقتها مديرا للأمن الوطني عما يرغب أن يكون في المستقبل. فرد عليه وهو يطأطئ رأسه خجلا، بأن كل حلمه أن يصبح يوما مدرسا في الجامعة، وفي حال سنحت له الظروف قد يترشح للانتخابات عن دائرة في سطات.
فقد كان أقصى طموحه أن يدخل البرلمان، قبل أن يمسك مفاتيح أبوابه بيده في السنوات إياها التي كانت تأشيرته كافية للولوج إلى قبة البرلمان.
دار اللقاء في إقامة الدليمي في حضور طرف ثالث، هو من أوعز إلى البصري أن يقدم «أوراق اعتماده» إلى الدليمي، عساه يظفر برضاه. وكان محوره السؤال عن الموقع الذي يفضله الضابط البصري، إذا كان أمام مباراة في كرة القدم، سأل الدليمي بطريقته البدوية التي تنم عن دهاء فطري:
ـ هل تريد أن تكون لاعبا أم متفرجا أم حكما؟
تأمل البصري السؤال من كل جوانبه، وبدا له أن أي جواب سيترتب عليه ترسيم معالم مستقبله المهني، إذ كان يتوق إلى التقرب من الدليمي. طالت حيرته بعض الشيء، فرد العسكري الذي لم تكن نياتينه قفزت إلى رتبة جنرال، بأن اللاعب يخوض معركته ميدانيا ويعنيه أن ينتصر بأي ثمن، بينما الجمهور يكون موزع الولاء بين هذا الفريق أو ذاك. أما الحكم فإنك تعرفه.
غير أن الملك الحسن الثاني الذي يزيد شغفه بكرة القدم عن عبور مسالك الكولف التي تعلم الإصغاء إلى اتجاه الرياح وسبل اختزال المسافات. فقد كان يرى أن الحكم لا يقل عن اللاعبين قدرات في الجري داخل الملعب، ما يتطلب منه إجراء التداريب وامتلاك طول النفس قبل إصدار الأحكام. خصوصا أن رقابة برلمان الجمهور تترصد هفواته وأخطاءه، إن مال في هذا الاتجاه أو ذاك.
أواصل مع حكايات اللعب الشعبية، فهي أقرب إلى اختزال صراعات ومحطات استراحات، إذ تصعد فرق وتهوى أخرى ويبقى الجمهور في مكانه فرحا أو حزينا على قدر نشوة النصر أو خيبة أمل الهزيمة.
وسأل الملك الحسن الثاني مرة عن أطوار مقابلة كانت تجري بين الرجاء البيضاوي وإحدى الفرق، فقيل له إن الفريق البيضاوي لم يسجل بعد أية إصابة، سأل وأين بيتشو؟ فقيل له إن المدرب احتفظ به في الاحتياط.
في أصل الحكاية أن مدربا أجنبيا تعاقد مع الرجاء وأمضى له مسيروه شيكا على بياض حيال التصرف في اختيار وتدريب اللاعبين.
كان في ذهنه مقاييس ومعطيات علمية وتقنية وجسمانية حول تأهيل اللاعبين، وتحول إلى جانب أحد مساعديه إلى طبيب اختصاصي في احتساب نبضات القلب وسعة التنفس والقدرة على الركض في مسافات أطول. وحين جاء دور اللاعب بيتشو اكتشف أن قدراته الجسدية لا تسمح له أن يخوض مباراة حاسمة، فكان أن احتفظ به في الشرط، وسط ذهول الجمهور ورفاقه في اللعب على حد سواء.
كان سؤال الحسن الثاني عن بيتشو كافيا لإعادة اللاعب النجم إلى جمهوره في اللحظات الأخيرة. وبين مراوغة وأخرى دانت اللعبة بين قدميه وقذف مسجلا إصابة النصر على بعد توان من انطلاق صفارة النهاية.
اختلف الوضع هذه المرة، لم يقدر الحسن الثاني على تحمل خمول أحد اللاعبين في الفريق الوطني، بدا له متعبا وشارد الذهن، لعله كان يعول عليه لصنع حدث المباراة، ولما خاب ظنه أمر باستبداله بلاعب آخر.
وقتذاك لم يكن الهاتف النقال، كان يتعين على مدرب الفريق أو رئيس الجامعة الوطنية لكرة القدم أن يغادر المنصة، ثم يتجه إلى أقرب مكتب في محيط الملعب للرد على المكالمة. بعملية حسابية يستغرق التنقل حوالي عشر دقائق، يتخللها بعض الانتظار، غير أن الكولونيل بلمجذوب وهو المتمرس على الطقوس والتقاليد، أدرك منذ المناداة عليه أن الأمر يرتدي طابعا استعجاليا.
نادرا ما تلقى أمرا من ذلك النوع، فقد ألح عليه الملك الحسن الثاني أن لا بديل عن تغيير لاعب كان حظه سيئا ذلك اليوم. هل هي سابقة أم أن لها ما قبلها وما بعدها، ما يهم أن رئيس الجامعة تسلح بشجاعة ليبلغ مدرب الفريق فحوى قرار لا رجعة فيه، لا يهم مرة ثانية إن كان ذلك رأيه، فالأهم أن لديه شعورا بامتياز أسند إليه في لحظة رياضية حاسمة.
كانت شمس المباراة في طريقها إلى الغروب، ولم يتبق إلا أن يرمي الحظ بكرة الإنقاذ عند قدم لاعب ماهر، أو تحط على رأس تديرها في الاتجاه الصحيح، وبينما أوشك الإحباط أن يتمكن من الجمهور ومن أحاسيس فرسان الكرة، إذا باللاعب المغضوب عليه يتلقف كرة ويسددها في المرمى، عبر ضربة اتسمت باحترافية نبيلة، كما يردد بعض الواصفين الرياضيين، اهتز الجمهور فرحا على إيقاع اهتزاز شبكة الخصم، وانطلقت الهتافات تحيي اللاعب وأعضاء الفريق.
حدث ذلك، بينما كان الكولونيل بلمجذوب في طريقه إلى أن يبلغ مدرب الفريق بالقرار الملكي. رأى بأم عينه صورة نصر كروي يتقدم. ماذا عساه يفعل الآن؟ اختلط عليه الأمر بين الانضباط الرياضي والعسكري إذ رغم أنه ليس في ساحة معركة، فإن الأوامر تبقى لها الدلالات نفسها. راودته أفكار من قبيل الإيعاز لذلك اللاعب بالسقوط، كي يتم استبداله اضطرارا، نادى على مدرب الفريق، لكن صفارة الحكم أعلنت النهاية قبل أن يهمس في أذنه. في الوقت ذاته كان الهاتف يرن خارج الملعب، فقد حمل تهاني الحسن الثاني للفريق بروح رياضية أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى