شوف تشوف

زفرة بنكيران الأخيرة

إذا كان «ترحيل» وزير التعليم العالي لحسن الداودي لكتيبة من الأساتذة الجامعيين المغاربة إلى قطر، من أجل إجراء اختبار نهاية السنة لزوجة الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، قد ذكرنا بالأميرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي، التي اشتهت رفس الطين بقدميها عندما رأت نساء يقمن بذلك، فما كان من أبيها المستكفي بالله سوى أن خلط لها العنبر بالعطر لكي تعجنه الأميرة المدللة بقدميها وتحقق نزوتها، فإن منظر رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران وهو يذرف الدموع في البرلمان، ذكرنا بمشهد تاريخي آخر لا يقل قساوة، هذه المرة، وهو عندما وقف أبو عبد الله محمد الثاني عشر، آخر ملوك الأندلس، حاكم غرناطة، يبكي أمام أمه ضياع ملكه، فقالت له أمه: «تبكي مثل النساء ملكا لم تعرف كيف تحافظ عليه مثل الرجال».
وإلى اليوم، مازال المكان الذي ذرف فيه أبو عبد الله الدموع يسمى el último suspiro del» Moro»، أي «زفرة العربي الأخيرة»، وهو المكان الذي سلم فيه مفاتيح غرناطة إلى الملكة إيزابيلا الكاثوليكية بعد حصار طويل. ومن سخرية التاريخ أن الإسبان منحوا اسم إيزابيلا الكاثوليكية لوسام استحقاق وشحوا به طوال السنين الأخيرة صدور مسؤولين مغاربة كبار.
ذكرني نواح رئيس الحكومة في البرلمان بنواح أبو عبد الله، لأن بنكيران بكى مثل النساء حكما لم يستطع أن يحافظ عليه مثل الرجال. فقبل أربع سنوات، عندما بلغ سدة الحكم مسلحا بدستور جديد يمنحه صلاحيات كبيرة وهوامش عريضة للعمل، كان الجميع يعتقد أنه سيمارس الحكم وسيحارب الفساد وسيقضي على الاستبداد.
لكن الأيام كشفت عكس ذلك تماما، فقد جمد الدستور وتقاعس عن إخراج القوانين التنظيمية لفصوله واقتصر على الاجتهاد في إخراج القوانين التنظيمية التي سيحتاجها لتوظيف وتنصيب أصحابه وعشيرته، كقانون التعيين في المناصب السامية. أما القوانين الأخرى التي تعتبر لب الدستور وجوهره فقد أهملها مفضلا الاشتغال بالدستور القديم، حتى لا يكون مضطرا للتصادم مع المؤسسة الملكية، حسب زعمه.
قبل أيام، مرت الذكرى الرابعة للتصويت على الدستور الجديد للمملكة، وقد مرت هذه المناسبة دون أن تطرح إشكالية تعطيل رئيس الحكومة للدستور وقوانينه التنظيمية.
كل ما رأيناه هو بكاء رئيس الحكومة بين يدي البرلمانيين، في محاولة يائسة منه لاستدرار عطف الشعب، وكأننا محتاجون في هذه الأزمنة الصعبة لدموع رئيس الحكومة وليس لصرامته وحنكته.
يستحق فعلا رئيس الحكومة أن نطلق عليه عنوان رواية فيكتور هوغو «الضاحك الباكي»، فهو إذا لم يأت إلى البرلمان لكي يقهقه بأعلى صوته، فإنه يأتي إليه لكي يبكي ويتعصر لإخراج دموع التماسيح تأثرا على المغاربة الذين يعيشون وضعية إعاقة واعدا الأرامل وأبنائهن الفقراء بدعمهن بـ350 درهما عن كل طفل، فيما هو يرسل ابنه إلى فرنسا للدراسة على حساب أموال دافعي الضرائب بمنحتين: الأولى تصل إلى خمسة آلاف درهم في الشهر والثانية إلى ستة آلاف.
كفكف دموعك يا رئيس الحكومة، فالشعب لا ينتظر منك أن تأتي لكي «تنحط» عليه و«تهبط الدمعات» أمامه لكي يصدقك، فهناك ملايين الأسر التي تبكي بالدم وليس بالدموع بسبب الإجراءات المجحفة التي فرضت عليها خلال هذه السنوات الأربع التي قضيتها في الحكم، فهذه الأسر تنتظر قرارات واقعية من طرفك لإخراجها من البؤس، وليس مجرد مفرقعات إعلامية للاستهلاك الانتخابي.
ليس عيبا أن يتأثر رئيس الحكومة ويبكي، لكن بكاءه كان سيكون صادقا لو أنه تصرف كرئيس للحكومة وفرض قوانين وقرارات في صالح ذوي الاحتياجات الخاصة، وبعد ذلك يمكنه ليس أن يبكي فقط بل أن «يندب بالقراشل».
لذلك فبكاء رئيس الحكومة ليس بكاء الشجعان وإنما هو بكاء المهزومين الذين لم يستطيعوا أن يحافظوا على الحكم الذي منحه إياهم الشعب بفضل دستور 2011.
وليس أمام الحاكم المهزوم سوى أن يسلم مفاتيح الحكومة ويغادر مبلل الوجه بدموع الخيبة والانكسار، تماما كأبي عبد الله، ولا نشك في أن أم بنكيران ستبخل عليه بالعتاب، وهي تقول له: «تبكي مثل النساء حكما لم تعرف كيف تحافظ عليه مثل الرجال».
إن أحد الأسباب الرئيسية لعدم قدرة عبد الإله بنكيران على المحافظة على حكمه هو عدم جرأته على تفعيل الدستور حرفيا، ولذلك فقد فضل الاستمرار بالعمل وفق الدستور القديم، إلا في ما يتعلق بالتعيين في المناصب السامية، لحاجته الملحة لإرضاء ذويه وعشيرته المتعطشين للجلوس فوق كراسي المناصب.
عندما قال البرلماني المقرئ أبو زيد، الذي عاد من أسطول الحرية بصور كثيرة يحكي فيها جهاده على ظهر باخرة لتحريره لفلسطين، أن حزبه اضطر للانحناء والسجود من أجل الدخول إلى الحكومة، وأنه ليس الحزب الأول الذي حصل له تناقض وانتكاسة عندما دخل الحكومة، فكثير من الناس، حسبه، يغيرون مواقفهم 180 درجة عندما يسيطر عليهم منطق الحكم الذي له استحقاقات وله التزامات، وأنه شخصيا لا يتقبل ولا يتفهم هذه الحيثيات، لكنها كأمر واقع موجودة، مثل شخص كان منتصب القامة ثم اضطر للدخول إلى بيت سقفه مرتفع على متر، فهو إما أن ينحني راكعا وربما ساجدا للدخول وإما ألا يدخل.
السيد أبو زيد يريد أن يبرر تراجع حزبه وهو في سدة الحكم عن الشعارات التي كان يرفعها، بحجة أن الدخول إلى الحكومة يفرض أن يغير المرء مواقفه 180 درجة، وأن ينحني راكعا وربما ساجدا لكي يدخل الباب القصير للحكومة.
عند الحديث عن أبواب القصور والقلاع السلطانية، يكاد الناس لا ينتبهون إلى أن هناك دائما بابا كبيرا يحتضن بابا صغيرا، فيفتح الباب الصغير لمرور الأشخاص بينما يفتح الباب الكبير على مصراعيه في المناسبات الكبيرة.
فعلا، لقد كان الدخول قبل 2011 إلى الحكومة يتطلب المرور عبر الباب الصغير والقصير نحو دار المخزن، لكن ما لم ينتبه إليه رئيس الحكومة هو أنه بفضل الحراك الشعبي الذي عاشه المغرب فتح المخزن الباب الكبير الذي يوجد به الباب الصغير لكي يدخل بنكيران، وهذا الباب الكبير هو دستور 2011.
لكن بنكيران، وبسبب عقدة القزمية التي لديه، فضل أن يستعمل الباب الصغير ذا السقف القصير والواطئ رافضا الدخول كأي زعيم حقيقي من الباب الكبير، ولو أنه فعل لكان المغرب خطا خطوة جبارة إلى الأمام، ولكان التاريخ احتفظ له باسمه ضمن الكبار الذين غيروا مجراه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى