الرأي

ظواهر مستفزة

الحياة ضربة حظ والمستقبل كذبة محبوكة والأحلام وهم والأمل رحيق ندى ينعش الذوات ويؤجل الموت المحتوم.. والسياسة لعبة ماكرة ولعنة مدنسة. والقراءة حيوات لا متناهية تخصب الأحلام وتنعش الآمال. والكتب دواء وبعضها جواز إلى أرخبيل الجنون.. وخطب الجمعة قرص معطوب ووصلات التلفاز عاهرة مصابة بالإيدز، والمدرسة مشروع عطالة ومجرمين. والأيام مصنع يصدر ظواهر سخيفة لا تنتهي… والذي لا يدركه الكثير أننا نسبح في رماد وأن طموحاتنا محدودة ومبادئنا هشة وكرامتنا مهضومة. نجري عراة ونزحف بلا مستقبل، لأننا لا نحلم بأبعد من أقدامنا؛ وظيفة مملة كيفما كانت، يحاصرها الوشاة من كل الجوانب بالواقعي والمزيف، وراتب شهري يضمن المأوى والسيارة وأسرة، ويخول شرب قهوة على جنادل الوادي أو على شفة زبد البحر، وثمن كأس من بنت الكرم مع كائن صقيعي يتفاعل بدفء النقد وبهدايا تنشي الخاطر، وأشياء أخرى لا تقل تفاهة عن الحلم الأمريكي.. إنها ظواهر التكالب والفساد الذي غزا البلاد. هذه الرقعة المهمومة التي تبتسم لمن يدفع أكثر وتهب أحضانها الوارفة للؤماء وتنبت عوض الخصب الهم والغم، وعوض الرقي والحياة الظواهر الشاذة والمثيرة التي تأقلم معها البشر.
من المستحيل في زمن متطور ألا تجد بعض الظواهر المستفزة تطالعك بوقاحة في كل خطوة تقدم عليها. ومن كثرة ما أصبحت كالطحالب اعتدنا عليها وتآلفنا مع أنماطها، ننتقدها بشزر وأسف، ننظر إليها نظرة دونية لكن لا شيء تغير منها، بل الأغرب من هذا أن الذين يستنكرون بعض الظواهر يتأثرون بها بدون شعور، فتصيبهم عدواها وينسجمون مع محيطها وطبيعتها، والنشء بدوره يتأثر بها ويزاولها كما لو كانت مرتكزات أساسية كتلك التي يؤكد عليها خطيب الجمعة، أو مراهقو الفضاءات العامة أو مرضى السكري في الشوارع، أو دروس الأستاذ الجامعي المُنزه والقديس، أو تؤكدها تلك الحالات المستعصية التي تصدمك في كل خطوة تقدم عليها في محيطك، فتحجب نظرك وتغشي خاطرك.
وبدون غلو، فربما تبقى الوشاية والتملق من أشد الظواهر حضورا، المديرون دوما ينصبون سكرتيرات جميلات، ولكن يجب أن تتوفر فيهن شروط الابتسامة المرسومة والوشاية الطرية والتملق اللافت والباهر. وهذا الأمر لا يقتصر على الشركات الكبرى والمؤسسات العمومية والأسواق التجارية، بل يتعداها إلى المدرسة والجامعة التي ننتظر بركتها.. فمنذ الصبا يتعلم الطفل، عوض القيم الأخلاقية، الوشاية والأنانية والحقد، ودائما عندما يريد المعلم أن يستأنس بالمعلمة المجاورة، ينصب تلميذا على القسم أو ينصح تلاميذه بأن يراقب كل واحد زميله على الطاولة.. والجامعة أيضا لا تخلو من هذه الظاهرة، لأن هناك أشخاصا مرضى بداء الوشاية لا يقبلون مناداتهم أو دعوتهم إلا بلقب «الدكتور»، من أولئك الذين يتاجرون بكتبهم بإرغام الطلبة على شرائها حتى لا تتعرض للكساد وتصاب بضربة شمس في الأكشاك.. ومنهم من ينصبون لجنة استخباراتية على الذين لا ينادونهم بـ«الدكتور» ولم يشتروا كتبهم الكاسدة، التي يوزعها أكثرهم مجانا ويناقشها يوم الامتحان إن لم يرغم الطلبة على شرائها. ومع الأسف، هناك ضحايا مساكين نازحون من مجتمع يعيش على تخمة هذه السلوكات المريضة التي غشيت البلاد بعتمتها، من المحظوظين بتزكية «الدكتور»، وهم الذين تجدهم يتسابقون على المقاعد الأولى في المدرجات ويتكالبون على «الدكتور» في آخر الحصة ويطاردونه في الساحة والأركان كشخصية رسمية، حتى يغلق باب سيارته وينطلق، أو حتى يغلق باب مكتبه للتشاور وتبادل الآراء والأفكار وإبرام صفقات التزكية والوعود المضمونة…
نصيحة أخرى: لا تخدعكم ربطات العنق والأناقة و«الفوحان». فأغلب الذين يكثرون الثرثرة في المقاهي ويسترخون كالقطط المتخمة في استراحة راقية، والسيجارة الشقراء الغالية تحترق بين الأنامل الناعمة، والرجل فوق أختها كقائد في أيام زمان، أو كتلك الصورة التي يتناقلها رواد المواقع الاجتماعية تظهر محمود درويش يضع رجلا فوق أخرى وياسر عرفات يجلس مستقيما بجانبه ويستشيره. أولئك الذين يلبسون البزات الأنيقة ويتفاخرون بها في المقاهي ويطلبون النادل بإشارة اليد، أغلبهم؛ إما سماسرة أو فاشلون تعيلهم زوجاتهم العاملات منظفات في الشركات أو شغّالات في البيوت التي تجود عليهن بالبدلات المستعملة وبقايا الأكل وكل الفضلات الزائدة.. لكن الأزواج يقنعون أنفسهم بالانفتاح والمساواة وضرورة إسهام المرأة في المجتمع وتحمل المسؤولية، فيما هم ينشغلون باجترار ثرثرة زوجاتهم اللواتي ينقلن مع الفضلات أسرار مشغلهن إلى البيوت الشاحبة، وينشغلون برصد حركة الشارع ألا تتوقف.
حالة سيئة أخرى ربما الكل يعرفها ويتفق معي عليها: الأنانية الحقيرة في القطارات، حين يتمدد أحدهم متظاهرا بالنوم والغطيط، ويترك الواقفين يطرقون المقصورة أو يضع في أذنيه سماعة الصوت ويستمتع بزحمة المارة وبلغطهم واستنكاراتهم، بل إن هناك من الأسر من يسيطر عليهم حب التملك حتى في القطار، فيملؤون الكراسي بالحقائب والأطفال والمعاطف ونفايات الوجبات السريعة، حتى لا تزعجهم السحنات الواقفة وتغتصب خلوتهم. في الدرجة الأولى كل شيء ميسر، ودائما الفلوس تيسر كل شيء، هناك تكون المقاعد بالأرقام وبالإمكان أن تدفع أحدهم ليترك لك مكانك، أما الدرجة الثانية فالفوضى عنوانها العريض، ودائما «أنا وبعدي الطوفان».
هناك أمر آخر: لا تصدقوا كل ما تسمعونه، فأغلبه من نسج عقاقير الهلوسة، وهْمٌ مختلق نبني ونؤسس واقعه، بل صدقوا ما تعرفونه وما تعيشونه وما تؤمنون به وما يصدمكم.. فإن الصدمات تعلمنا ما لم يعلمه لنا مدرس التلاوة والنشاط العلمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى